لا يذكر تاريخ اليهود في العالم العربي إلا بتوجس وحذر وتآمر، وفي معظم الأحوال يشوبه تعمد لتتبع الوقائع المشينة، وإنكار أي دور وطني شاركوا فيه باعتبارهم عربا قبل أن يكونوا يهودا ولهم إسهامات وإنجازات حضارية عديدة، وتتعمد الكثير من الكتابات الإسرائيلية الآن إلى عدم الإشارة إلى هذا الجانب، وربما العكس لتبرير ذهابهم إلى فلسطين.
أعلم أن هذا الكلام قد لا يعجب الكثيرين، وربما يضعه البعض ضمن محاولات تبييض وجه اليهود، لكنها الحقيقة التي يجب تناولها بكل موضوعية، ودون أهواء شخصية، كي نتمكن من فهم السياقات اللاحقة، بما فيها نكبة فلسطين، وحجم الدور الذي لعبه اليهود العرب في دعم الصهيونية لزرع إسرائيل على حساب فلسطين.
تحمل ثورة عام 1919 المصرية دلالات عدة، لأنها كشفت عن وحدة الصف بين جميع الطوائف التي شاركت تحت حلم واحد، وهو الاستقلال عن الاحتلال البريطاني. إلا أن البعض عمد إلى إخراج الطائفة اليهودية من منظورها كحركة وطنية شاركت في العمل الثوري، حتى أعاد كتاب نادر بعنوان “عن الوفد المصري” صدر عام 1927، جزءا من حقائق غائبة لمشاركة اليهود والنساء للمرة الأولى.
يخلط الكثير بين اليهود كأصحاب دين سماوي، والحركة الصهيونية باعتبارها حركة عنصرية عدوانية مغتصبة لحقوق شعب عربي. وعمد باحثون ومؤرخون إلى إسقاط اليهود من ذاكرة النضال والكفاح العربي لنيل الاستقلال، لأسباب عاطفية أو سياسية.
كتاب “عن الوفد المصري” لمؤلفه محمود أبوالفتح، وصدر عام 1927، من وجهة نظر البعض من المؤرخين، يمثّل إنصافا لدور اليهود المخفيّ في الثورات المصرية الوطنية ضد الاحتلال البريطاني.
يقدّم الكتاب بشكل عام إطلالة نادرة على واحدة من أهم ثورات الشعوب العربية ضد الاستعمار، وهي ثورة 1919 بقيادة الزعيم المصري سعد زغلول، وهي الثورة التي سوف تحتفل مصر بمئويتها، بدءا من شهر مارس المقبل.
يعرض الكتاب دون تحيّز أدوار طوائف الشعب المصري، ومنهم اليهود في الثورة ضد الاحتلال الإنكليزي مستعرضاً ما قدّموه من تضحيات وجهد لتحقيق الاستقلال.
وتحمل الكواليس التي تحيط به الكثير من الإثارة، لأن الكتاب لم يُعَد نشره مرة أخرى، ولم يلق توصية بضرورة إعادة طباعته، وبدت قصة حياة المؤلف مثيرة للجدل بعد أن مر بالكثير من الأحداث وانتهت بنفيه، وامتد به العمر حتى سنة 1958 ولم يتكرر الحديث عن كفاح اليهود المصريين ضد الاحتلال إلى جانب باقي طوائف الشعب المصري.
في ظل حالة التعتيم على الكتاب، بات الوصول لنسخة منه مسألة عسيرة، بعد أن اختفى تماما ضمن كافة مؤلفات محمود أبوالفتح، بعد وفاته. لكن الصدفة قادت لوصول الكتاب إلى “العرب” عن طريق أحد هواة جمع الُكتب والوثائق القديمة ليقدّمه باعتباره إحدى الوثائق الأولى لثورة عام 1919 وزعيمها سعد زغلول.
المؤلف محمود أبوالفتح هو واحد من الرعيل الأول للصحافيين المصريين. ولد سنة 1893، وبدأ حياته محررا في جريدة وادي النيل قبل أن ينتقل إلى الأهرام، ثم عمل مستشارا صحافيا للوفد المصري الذي عرض قضية استقلال مصر في مؤتمر حق تقرير الشعوب، وظل مترجما شخصيا لسعد باشا زغلول حتى وفاته في 23 أغسطس سنة 1927.
في 1936 أسس أبوالفتح جريدة المصري لتصبح لسان حال حزب الوفد وقتها، وشارك في إنشاء أول نقابة للصحافيين المصريين عام 1941 وكان أول نقيب لها. وبعد ثورة يوليو 1952 اصطدم بالضباط الأحرار، فعطلوا جريدته وحاكموه وهو خارج مصر فلم يعُد إليها حتى وفاته سنة 1958. ولم يوافق الرئيس الراحل جمال عبدالناصر على دفنه في مصر وقرر الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة استقبال جثمانه ودفنه في الأراضي التونسية.
تعد حكايات الكتاب هي الأقرب للحقيقة والدقة لثلاثة اعتبارات؛ أولها أنه أقدم كتاب عن الوفد المصري وثورة 1919 وصدر وجميع قادة الثورة على قيد الحياة. وثانيها لأن مؤلف الكتاب صديق سعد زغلول ورجال الوفد في باريس واطلع على اتصالاتهم ولقاءاتهم وتفاعلهم مع الثورة يوماً بيوم. والاعتبار الأخير هو أن المؤلف نفسه تميز بالموضوعية عند ذكره لأي حدث، إذ يورد معه نصوص الخطابات والأحاديث كأنها مسجلة مُدعماً إياها بصور للشخوص والأحداث والوثائق.
يستعرض الكاتب في شهادته تساؤلات عديدة لصحافيين أوروبيين عن الثورة المصرية وإجاباتها، منها سؤال عن دور الطائفة الإسرائيلية (اليهود المصريين) في الثورة، ودور النساء، ودور المسيحيين.
ويستهل الكتاب بشرحه لأهمية ثورة 1919، بالقول إنها قامت ردا على إلقاء قوات الاحتلال الإنكليزي القبض على الزعيم سعد زغلول وكيل الجمعية التشريعية “البرلمان في ذلك الوقت” بسبب طلبه هو واثنان من الأعيان المصريين السفر إلى مؤتمر الصلح في باريس لعرض قضية مصر.
قررت بريطانيا وقتها، نفي سعد زغلول وزملائه إلى جزيرة مالطا، واندلعت المظاهرات في ربوع مصر، وساد الغضب واتسعت الإضرابات والمصادمات بين المصريين وقوات الاحتلال حتى اضطرت للإفراج عن سعد وزملائه والسماح لهم بالسفر إلى مؤتمر الصلح بباريس لعرض قضية استقلال مصر.
يحكي أبوالفتح عن مشاركة اليهود في دعم الثورة، بدءا من قيام حاخام اليهود، وقتها، بإسناد توكيل لسعد زغلول ضمن توكيلات المصريين للرجل للتحدث باسم مصر. وكان الإنكليز يحتجون بأنه لا توجد صفة قانونية تسمح له بعرض قضية مصر، فلا هو رئيس حكومة ولا ممثل لشعب، وهو ما دفع فئات المجتمع لعمل توكيلات له.
لم يكن توكيل حاخام اليهود سوى بداية دفعت باقي أفراد الطائفة اليهودية إلى عمل توكيلات مماثلة. والغريب أن محمود أبوالفتح يشير إلى مظاهرات نظمها اليهود المصريون في 9 مارس عام 1919 ضد الاحتلال الإنكليزي، وشارك فيها الحاخام اليهودي نفسه.
يقول الباحث والمؤرخ أحمد كمالي، إن دور اليهود المصريين في ثورة 1919 لا يمكن إنكاره. فليون كاسترو كان أحد قادة اليهود الداعمين للحركة الوطنية ضد الاحتلال وساهم من خلال جريدته ليبرتي الناطقة باللغة الفرنسية في فضح جرائم الاحتلال الإنكليزي لمصر.
ويلفت لـ”العرب” أن الكتابات التالية لتأسيس دولة إسرائيل أغفلت دور اليهود في دعم الحركات الوطنية في مصر والعالم العربي، باعتبار أن حالة العداء تنكبّ على كافة اليهود وهو خطأ علمي واضح. وهو ما يفسر عدم غرابة ذكر مواقف اليهود الثورية والوطنية، وكان أحد أشهر الفدائيين اليهود ديفيد هازان، الذي انخرط في أعمال اغتيال ضد جنود الاحتلال وتم إعدامه سنة 1923.
يعزز حديث الكتاب وتمجيده للعمل اليهودي الثوري، الأغنية التي لحنها وغناها سيد درويش خلال الثورة بعنوان “قوم يا مصري” من كلمات بديع خيري، والتي تقول كلماتها “حب جارك قبل ما تحب الوجود/ إيه نصارى ومسلمين/ قال إيه ويهود/ دي العبارة نسل واحد من الجدود”. لكن الأغنية تعرضت للتشويه بعد ذلك، وحذفت منها تلك الكلمات عند غنائها بعد حرب فلسطين عام 1948.
يتناول الكتاب النادر دور المرأة في الثورة وكيف خرجت النساء المصريات لأول مرة في التاريخ تغطين وجوههن بالبراقع (غطاء يوضع على الوجه) إلى الشوارع هاتفات بالاستقلال.
ما يرويه أبوالفتح عن نضال المرأة المصرية ضد الاحتلال كان محل إعجاب وتقدير من كبار الشعراء في ذلك العصر، حتى أن حافظ إبراهيم المُلقب بشاعر النيل كتب قصيدة طويلة عن مظاهرات النساء في ثورة 1919 قال فيها “خرج الغواني يحتججن/ ورحت أرقب جمعهنه. فإذا بهن تَخذن من/ سود الثياب شعارهنه. فطلعن مثل كواكب/ يسطعن في وسط الدجنه. وأخذن يجتزن الطريق/ ودار سعد قصدهنه”.
لا شك أن خروج المرأة المصرية إلى الشوارع والميادين للتظاهر في ذلك الوقت، كان أمرا غريبا. وفي مذكرات هدى شعراوي المعروفة برائدة تحرير المرأة في مصر وصف تفصيلي لبعض مظاهرات النساء خلال ثورة عام 1919.
تحكي تلك المذكرات عن شهيدات سقطن في مظاهرة النساء في الثورة، وأشارت شعراوي إلى أن مظاهرة كبرى للنساء المصريات خرجت في 10 أبريل عام 1919 وذهبت إلى مقر المعتمد البريطاني لتهتف مطالبة بالاستقلال التام. وقتها فوجىء المعتمد الذي لم يكن يتصور النساء المصريات سوى أشباح خلف البراقع ولا علاقة لهن بشيء سوى بيوتهن وأطفالهن بذلك الحشد الكبير من النساء يشاركن بقوة وصدق في التنديد بالاحتلال.
كانت أعلام مصر ترفرف بين أيد رقيقة لمجموعات من النساء المتشحات بالسواد وهن يهتفن بالاستقلال التام. وخرج المعتمد البريطاني من دهشته منذرا ومهددا السيدات الواقفات أمام مقر عمله بالاعتقال والسجن، ولكنهن رفضن العودة إلى منازلهنّ دون الإفراج عن سعد وزملائه وباقي المعتقلين. لم تمض لحظات حتى اندلع الرصاص على مظاهرة النسوة فسقطن في سبيل الحرية، من بينهن شفيقة محمد وعائشة عمر ونجية إسماعيل وفهيمة رياض. ويسرد الكتاب أيضا تفاصيل سفر الوفد المصري إلى مؤتمر باريس عام 1919 لطلب نيل الاستقلال التام، وكيفية تعامل الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، صاحب مبادرة حق الشعوب في تقرير مصيرها، مع الوفد المصري، فيقول الكتاب “الوفد تعرّض لصدمة كبيرة بعد أن رفض ويلسون تأييد الوفد وقرر الاعتراف رسميا بالحماية البريطانية على مصر، وهو ما سبب صدمة بالغة لأعضاء الوفد”.
وينقل مؤلف الكتاب نص الخطاب الذي بعث به سعد زغلول إلى الرئيس الأميركي في 29 أبريل عام 1919 بعد تلك الصدمة “إننا شعب متعطش للحرية رأى في مبادئكم ضمان الخلاص القريب، وكنّا أول من هنّأ أنفسهم بقدوم عهد تمنح فيه جميع الشعوب والجنسيات حق الحياة على قاعدة المساواة والحرية والطمأنينة، سواء كانت قوية أو ضعيفة، واعتمدنا على وعدكم إنكم لن تراعوا سوى رضاء الشعوب التي ستتناولها التسوية العامة، ولهذا السبب كانت صرخة ليحيا ويلسون تتردد في جميع أنحاء البلاد كأنها صدى الحرية المقبلة”.
ولم يتلق الوفد المصري رداً سوى اعتذارات دبلوماسية، واستغل سعد زغلول انتقادات واسعة وجهتها الصحف الأميركية إلى الرئيس ويلسون في مؤتمر الصلح ليبعث له بخطاب آخر قال فيه “لم يكن في استطاعة المصريين أن يتصوروا أن المبادئ التي جعلت العالم يظلل نفسه بعهد حرية ومساواة هي التي تسجل العبودية على أمة بأسرها”.
ما نقله أبوالفتح عن جهود الجمعية المصرية الوطنية في باريس لخدمة القضية المصرية خلال الثورة، كان مثيرا للاهتمام، لأنه عرض كيف ناصرت غالبية الأحزاب الاشتراكية في أوروبا الوفد المصري، وتم تنظيم لقاء موسع لحركات اليسار في فرنسا وأوروبا شارك فيها الشيوعي الفرنسي رابو بور، لتستنكر حركات اليسار الأوروبية وحشية بريطانيا مع المصريين. وما أشار إليه الكتاب في ذلك اللقاء، خطاب مارسيل كاشان، زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي والذي وعد فيه باعتبار القضية المصرية إحدى أولويات الحزب.
ويحكي الكتاب أيضا عن تفاصيل جديدة، من بينها محاولة جذب الوفد المصري لرموز الأدب العالمي لدعم القضية المصرية، وكانت من ضمن تلك المحاولات إقامة حفل مصري للأديب الفرنسي الشهير أناتول فرانس.
ويكشف أبوالفتح الدور الذي لعبه المصريون في أوروبا لدعم الثورة المصرية، ومنها دور الزعيم المنفي محمد فريد، وكان مقيما في سويسرا، وسارع إلى عقد اجتماع للمصريين في سويسرا في 26 مارس 1919، وقرروا إرسال بلاغات احتجاج إلى مؤتمر الصلح والرئيس الأميركي ويلسون.
ورد محمد فريد على حملات دعاية قامت بها بعض الصحف مستخدمة مذابح الأرمن على يد الأتراك لتشويه الثورة المصرية، واعتبارها ثورة دينية تستهدف ذبح المسيحيين بمقال تفصيلي حكى فيه عن الأسر المسيحية والأرمنية المستوطنة في مصر منذ عقود والتي وصلت بأحد أبناء الأرمن وهو نوبار باشا، إلى منصب الوزارة، وكان ابنه بوغوص مديرا عاما للسكك الحديدية.
طبع المصريون في سويسرا عدة كتب عن المسألة المصرية، منها كتاب لمحمد فريد بذات الاسم وكتاب باسم “مصر للمصريين” لمؤلفه باهر صدقي، وكتاب “35 عاما تحت السيادة البريطانية في مصر” لمؤلفه إبراهيم بك.
ما نقله الكتاب أيضا لقاء محمود أبوالفتح بالكاتب البريطاني الساخر برنارد شو، والذي كانت له شعبية واسعة بين المصريين المقيمين في أوروبا، وقال إن شو أكد له أن كل ما تنشره الصحف البريطانية عن الأحداث في مصر مشوّه ومزوّر.
العرب