الرئيسية / الأخبار / فلسطين
أم غسان.. شنّيران من جوفها مُودَعان في تراب عسكر القديم
تاريخ النشر: السبت 01/09/2018 14:01
أم غسان.. شنّيران من جوفها مُودَعان في تراب عسكر القديم
أم غسان.. شنّيران من جوفها مُودَعان في تراب عسكر القديم

كتبت: تسنيم ياسين
عمل مقدم من تسنيم ياسين وغادة اشتية
"ولك يا موت شو دلك عليي، أخذت بشار وبسمان الغاليين عليي، بقوا زغاليل بحضني وفروا من إيديي..."
لن تنتظر طويلاً في بيت الحاجة أم غسان الشنير، في مخيم عسكر القديم شمال شرق نابلس، قبل أن تسمع هذه الترانيم على لسانها، تفتح يديها مع كل كلمة تخرج منها، وتنشدها بأعلى صوت، كأن الموت يتجسد أمامها تعاتبه، وتوبخه، بعد أن خطف ولديها بشار وبسمان.
حين تدخل البيت تحسب نفسك في قاعة سينما حزينة أو ربما قاعة تأبين، فالبيت الصغير الذي لا يتسع لساكنيه، اتسعت جدرانه لعشرات الصور للشهداء وذكرياتهم، فإطار يحوي بشار وبسمان القريبين حياة وموتاً، وإطار آخر يحفظ لحظة جمعت الأم وولديها.
شقاءٌ متوارث
شقاء الأم ليس وليد لحظة أو سنوات زواج، فهي ابنة النكبة ولدتها أمها عام 1949 في بلدة نعلين بعد أن هجروا من مدينتهم اللد، ثم ما بين خيمة وأخرى، وصلوا إلى مخيم بلاطة، وهناك نشأت وتزوجت.
في بيتٍ مستأجَرٍ تحت سماء مخيم بلاطة، 11 كوكباً أحاطوا أمهم، جائعين أشقياء، كلٌّ منهم لديه طلبه ولكن الأم لم تكن تملك ما تطعمهم إياه، خاصة بعد تعطل الأب ودخوله المستشفى ببيت لحم.
تبدأ الحكاية، مع إصابة الوالد "أبو غسان الشنير"، الذي كان يعمل في مخبز بمدينة نابلس، بنقطة دم في رأسه بعد اعتداء الجنود عليه ضرباً عام 1990 فقد على إثرها قدراته العقلية.
تتحدث أم غسان عن الحادث: "كنت أترك ابنتي الكبرى في البيت، مع إخوتها الستة وأخواتها الأربعة، أؤمنها على المنزل وأغيب لأزور والدهم، اضطررت للعمل في منازل الناس، أطبخ وأنظف وأحاول أن أتدبر أمري بأي وسيلة".
بائع الـ"بالوظة"
لا تحفظ الحاجة أم غسان لحظات الحياة كما الموت، فحياة بشار بالنسبة إليها تبدأ منذ أن رأته شهيداً، وكذلك بسمان.
يتهدج صوت أم غسان، تعاود البكاء بينما هي تستذكر طفولته: "بشار منذ أن كان صغيراً ربيته على العمل، حتى أنني كنت أتركه مع إخوته الأصغر منه في البيت وحدهم وهو لم يتجاوز الثالثة عشرة، وأذهب للعمل".
وتتابع الأم: "كنت أعد له الـ"البالوظة" يبيعها أينما تيسر له، خاصة عند المدرسة، ويأتيني مساءً بسبعة شواكل، أعطيه شيكلين والخمسة لإخوته، كان يتمنى لو أعطيه أكثر لكن لم يكن باليد حيلة".
رغم الانشغال بالعمل كان الدم في عروق بشار ثائراً دائماً، فبينما هو لم يتعد الحادية عشرة كانت الأم تضطر للحاق بابنها أينما ذهب، لتمنعه من الدخول في مواجهات مع الاحتلال.
يعلو صوت الأم غاضباً: "كنت أضربه، كلما ذهب إلى قبر يوسف أو على حدود المخيم حيث الاشتباكات كنت ألاحقه وأمنعه، لكن بعد أن كبر لم أكن أعلم ما يخبئه لي".
وصل بشار لعمر الثالثة والعشرين مع بداية الانتفاضة الثانية أي انتفاضة الأقصى، وكان يعمل وقتها في القوات الخاصة بالسلطة كما شقيقه الأكبر غسان، وبتاريخ 15-5-2000 كان بشار قد عقد العزم على ما لم تحس به أمه.
يعاود دمعها النزول، تتوقف عن الحديث، ويتوقف كل شيء معها، لا تلتقط الكاميرات لحظات الصمت لأنها تضيع وقت الفيلم لكن قلب الأم حين يقرر أن ينزف علناً لا يستأذن.
يرتفع صوت أم غسان مرة أخرى، وتسترسل في روايتها: "مثل السبع فجر بشار عبوة غاز في متديني اليهود الذين كانوا قد اقتحموا قبر يوسف، كانوا سبع حافلات، سقطوا ما بين قتيل وجريح، لكن الجنود الذين على جبل جرزيم أطلقوا عليه النار".
يعلو نواحها وهي تتابع: "كل من بقي حياً هناك من الجنود أرادوا أن يشفوا غليلهم من بشار فبدأوا يطعنونه بعد استشهاده، أعادوه لي مذبوح الرأس، في البداية أخبروني أنه مصاب لكن قلبي كان يحدثني بأن ابني استشهد، صرختُ فيهم "لأ، بشار استشهد".
في تلك اللحظات بعد استشهاد بشار، لم تنزل الدموع ولم ينشغل قلب الأم بحزنه، لتطلق الزغاريد وتوزع الحلوى وتنادي بالأطباء وكل من كان بالمستشفى: "أنا أم الشهيد".
ما فرّح قلب الأم، كان شعلة انتقام في قلب الأخ الأصغر لبشار، بسمان، الذي لم ينتظر طويلاً حتى لحق بأخيه.
خمس دقائق
"كان بسمان المدلل عند بشار، بحكم أنه الأصغر، كانا يلعبان معاً في المخيم، ويشتريان أغراض المنزل، ولكن حينما استشهد تغير بسمان بشكل واضح"، تروي أم غسان.
كانت الانتفاضة الثانية على أشدها، والمخيمات التي هي الشاهد الأول والأخير على النكبة لم تتسع لأحد كما اتسعت لثوار الانتفاضة وشبابها، كأن نقمة الشعب المهجر وجدت فوهتها التي تندفع منها إلى سطح الأرض، وبسمان ابن اللاجئين وشقيق الشهيد كان أحدهم.
بتاريخ 18-3-2003، تركت أم غسان ابنها بسمان مع إخوته في المنزل بعد محاولات كر وفر بينها وبينه وهو يحاول الفرار من يديها إلى الاشتباكات المشتعلة قرب مدرسة البنات في المخيم.
تتحدث أم غسان: "سمعت عن الاشتباكات قرب المدرسة، أول ما فعلته أنني عدت إلى المنزل لأبحث عن بسمان الذي أعرفه جيداً، لكنني لم أجده، ذهبت إلى مدرسة البنات وتحدثت إليه، كان يحمل كيساً مليئاً بالمولوتوف "الزجاجات الحارقة".
حامل "المولوتوف" وعد أمه: "يما 5 دقائق وباجي"، اطمأنت الأم لوعده وجلست تنتظره بعيداً، لم تكن تدري أنها خمس دقائق قبل فقدانه، ليقترب منها شابٌ ويخبرها بأن بسمان أصيب في صدره بطلقة نارية.
"أسرعت إلى المستشفى بنفس المشهد الذي عشته قبل ثلاث سنوات، لأجد ابني الصغير الذي لم يكن يمتلك هوية بعد، مستشهداً والدم يغطيه"، تسترجع أم غسان ذاكرتها.
كما المرة الماضية أيضاً، علت الزغاريد والهتافات، ووزعت أم غسان شوكولاتة السلفانة، وهي تهتف حيناً: "بسمان رحل إلى جانب أخيه"، وتناجي ابنها حيناً آخر: "سلّم على أخيك وأخبره أنني سأتبعكم ولكن حينما أجد الطريق".
"اشتقتلهم يما"
كل من يعرف أم غسان من أهالي المخيم يحفظ دموعها، فما حفظته في الماضي من دموع صار اليوم خطوطاً تحت عينيها، ترسم وجهها المجعد بالحزن، لتلازمها صفة خنساء مخيم عسكر.
"اشتقتلهم يما، الضنا عزيز على امه"، تبرر الأم المحزونة بكاءها المتواصل، وتقول: "الشهادة لا بد أنها جميلة لذلك اختارها ولداي، أريد أن أستشهد معهم لكن إلى الآن لم أرزق بها".
بين الفينة والأخرى، تشير بيديها النحيلتين إلى الصور المعلقة تعيد وتكرر: "انظروا هذا الطويل الهندي بشار، أما الأبيض الشبل هو بسمان، أريد أن أراهم ولكن هل من سبيل"؟
ولم يتوقف الحزن على فقد ولديها، بل لاحقها بعد سنة باستشهاد ابن أخيها خالد أبو شداد، الذي أطلق عليه الجنود النار وهو عائد من عمله.
كل من يمر من باب البيت يعرف ما مرّ عليه، فإن لم تكن الكوفية التي ترتديها الأم منذ 13 عاماً حجاباً معلقة على حبل صغير أمام المنزل، يجد مقام الشهيدين الذي أمر ببنائه الشهيد ياسر عرفات شاهداً على نكبة المنزل.
بشار وبسمان وأبو شداد ليسوا شهداء عسكر الوحيدين، فمنذ تأسيس المخيم على يد الأونروا عام 1952 ظل المخيم عنواناً للمقاومة ، فمنذ عام 1987 فقد المخيم أكثر من 50 شهيداً من مختلف الأعمار، بحسب مركز خدمات المخيم.

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017