«على زوار متحف براءتي ألا ينظروا إلى الأشياء والأزرار والكؤوس ونعال فسون البيتية والصور القديمة كأنهم في مواجهة الراهن، بل أن ينظروا إليها وكأنها ذكرياتي».
نقرأ ذلك في الربع الأخير من رواية «متحف البراءة» للتركي أورهان باموق (نوبل للأدب 2006)، والراوي هنا هو كمال، ابن طبقة برجوازية في إسطنبول، الربع الأخير من القرن الماضي. لكن تداخلا معقدا يماهي بين كمال وأورهان، يبدأ من المجتمعات والأمكنة والأزمنة التي تشاركاها، ولا ينتهي بالمتحف الذي أسسه أخيرا أورهان باموق.
وليس الكلام هنا في وارد السؤال عما إن كان هذا هو ذاك، فهذه مسألة منتهية، يختصرها القول بأن المؤلف موجود في شخصياته مهما كان الشكل الذي أتت عليه، أو يختصرها ما كتبه باموق في الفقرة الأخيرة من روايته ذات الـ768 صفحة (دار المدى، ترجمة عبد القادر عبد اللي) مجيبا على «أورهان، هل أنت كمال؟» بالإيجاب، بشكل أو بآخر (نتذكر عبارة غوستاف فلوبير الشهيرة عن بطلة روايته: مدام بوفاري، هي أنا). وفي الصفحة ما قبل الأخيرة كتب كذلك أن «الرواية هي مهارة عرض الروائي مشاعره كأنها مشاعر الآخرين، وعرض مشاعر الآخرين كأنها مشاعره. مهما قلت إن كمال شخصية خيالية، أريد من قرائي أن يشعروا بأنني عشت قصة العشق التي كتبتها، مثل كل روائي».
أورهان باموق من يتكلم هنا، إذ ينتقل الراوي في الصفحات الأخيرة ليصير الروائي ذاته بعدما كان طوال الرواية الشخصية الرئيسية (كمال)، فالرواية بمعظمها مكتوبة بلسان كمال، إنما الروائي، كشخصية ثانوية جدا، كتبها عنه، إذ يقول كمال في صفحات سابقة «وهكذا اتصلت بالسيد أورهان باموق ليروي عن لساني وبموافقتي».
لكن ليس هذا التماهي المعقد، الممتع قراءة، هو ما يمكن أن يربط، بشدة، الرواية بشخصياتها وأحداثها، بالواقع، أو بواقع باموق تحديدا، بل هو المتحف الذي أسسه باموق، والأخير هنا هو صلة الوصل بين الخيال في الكتاب والواقع في المتحف، الكتاب صدر عام 2008 والمتحف تأسس عام 2012. في الرواية جمع كمال مقتنيات تتعلق بعشيقته فسون على مدى ثلاثين عاما، وأسس بها متحفا يخلّد به عشقه لها، وباموق جمع كذلك مقتنيات على مدى سنوات، ومن تلك الفترة (كأنها من ذاكرته، أي ماضي واقعه) التي تجري خلالها الأحداث، وأسس بها المتحف ذاته، فأورهان هو هنا شخصية روائية وكذلك واقعية، هو الوسيط بين العالمين، هو الذي سمع حكاية كمال وكتبها كشخصية خيالية، وهو الذي أسس في الواقع ما أسسه كمال في الخيال، دليلنا إلى واقع الرواية هو إذن باموق نفسه، الوسيط بين الخيال والواقع، بين الرواية والمتحف، أو بين «متحف البراءة» الكتاب و«متحف البراءة» البناء.
لم يكتف باموق بذكر أمكنة واقعية في روايته ذات الأحداث الخيالية، فذلك نقرأه في العديد من الأدب العالمي، كلاسيكيا ومعاصرا، ولم يكتف بجعل نفسه شخصية في الرواية، ما قد يوحي بواقعيتها، أو بانتقالها من عالم الخيال في الأدب إلى اليوميات والسيَر الذاتية. ذهب باموق إلى أبعد من ذلك في خطوة غير مسبوقة (كما قال) بأن أسس متحفا لا لروايته، بل لحكايتها ولشخصيتها المعشوقة، فسون، كأنها تواجدت في عالمنا. عدا عن كل ما ذُكر، هذا فقط ما يمكن أن يجعل الحكاية واقعية، «الأشياء»، هي التي تجعل شخصية خيالية ما، حقيقية، في إدراكنا وليس في واقعنا.
أن تكون شخصية كمال وكذلك فسون، حقيقية في إدراكنا لا يعني أنها واقعية، أن لها – مثلا- شهادة ميلاد تركية، هي حقيقية في إدراك قارئ الرواية الزائر للمتحف، القارئ الذي عاش حكاية مؤلمة وطويلة والزائر الذي سيرى كل ما قرأ عنه، ما تمت الإشارة إلى مكانه في المتحف، في الكتاب: أشياء فسون، فستانها المورد كما وُصف في الرواية، أعقاب السجائر المطعمة بأحمر شفاهها، كأس العرق الذي لامس شفتيها، وغيرها من الأشياء الملموسة (وإن كان اللمس ممنوعا في المتاحف). الأشياء المادية هي هنا التي تجعل للحكاية دلائل حسية تُضاف إلى المكان والزمان الإسطنبوليين، وإلى واحدة من الشخصيات الواقعية، وهي أورهان باموق الذي توجه إليه كمال ليطلب كتابة حكايته.
التجربة الأدبية لباموق في هذه الرواية خوضٌ عبقري، إذ أحدث «بعدا رابعا» لحكايته وشخصياتها، ألف الخيال (الكتاب) من الواقع، ليعود ويؤسس الواقع (البناء) ذاته، وليس غيره، من الخيال. قد تكون الحكاية واقعا أو يكون المتحف نفسه خيالا، وهو ما قاله في «النيويورك تايمز» بأن المتحف «ليس متحف أورهان باموق، القليل مني يوجد هنا، وإن كان متحفَ باموق، فهو مخفي، إنه كالخيال».
٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا
نقلا عن : القدس العربي