بقلم: يحيى عقل
لطالما استوقفتني العبارة الشهيرة التي تقول: "فاقد الشيء لا يعطيه" لأصدها و أنبذها وأختلف معها بكل ما أملك من سلطان وأقول هراء مغلوطا تفشى بين ثقافتنا ثم أعود وفي نظرة تمعن تطل على واقعنا المغطى بالوشاح والغمامة السوداء لأقف بتعجب وحزن شديدين وأقول مندهشا: مهلا! اني أرى تلك المقولة متجسدة في واقع مر...
واقع يرتدي ثوبا أبيض تلطخ بالوحل القذر، حتى لم يتبق من بياضه سوى نقاط شاذة صغيرة شاحبة!
وا عجبي!
فكيف يحدث هذا؟
قبل أن أخوض في مفاد خاطرتي علي أن أضع تعريفا وتفسيرا لما يقصده المثل العربي بشكل عام وما أقصده انا بشكل خاص. فلقد اقتضى التوضيح.
إذا تناولنا المثل من منظور لغوي عام فهو سهل التفسير وصحيح لغته ومفاده، ففاقد الشيء لا يعطيه.
فهل يعقل أن يصبح الجاهل الغير متعلم محاضرا في إحدى الجامعات في الرياضيات؟ أو أن يعمل خريج اللغة العربية في معمل للفيزياء؟ أو حتى ببساطة وسذاجة أن تذهب للصيدلية لتشتري خبزا؟! فهذا لا يجوز وفعلا فاقد الشيء لا يعطيه ولا يعيب المثل شيئا.
ولكن ما أقصده أنا في تفسيري لهذا المثل؛ التفسير الذي ذكرت مسبقا بأنني أضحده بشدة وبرغم ذلك أجده متجسدا في واقعي المرير بين الناس هو: كيف لشخص حرم و منع من أمر ما أن لا يرضى أو يسعى أو يقدم هذا الأمر لغيره المحروم من ذات الشيء! بكلمات أخرى عساني أن أقول بأنني ضد المثل الذي مفاده:
فاقد الشيء لا يعطيه حتى لغيره ممن فقد ذات الشي!
وهنا أقف وقفة احتجاج وتحسر في ذات الوقت لأرى واقعا متناقضا فيه غالبية سحقى تطبق مثلا شعبيا بطريقة انانية استفزازية شعواء حمقاء!
فأتعجب!
ليس من الشخص الذي فقد فرصة التعليم لأسباب معينة حتى وإن أصبح أفضل و أغنى شخصية في العالم لاحقا، وإنما أتعجب عندما يصبح هذا الشخص أبا ليضغط على ابنه ويجبره أن يترك التعليم منذ الصغر ليعمل في ورشة الحدادة ليعاونه علما بأنه مقتدر ماديا على تعليم ولده فهنا أصرخ وا عجبي! أولست ذلك الشخص الذي فقدت شيئا لا تستطيع أن تعطيه؟ أولست ذلك الشخص الذي شعر ومر بعذاب التجربة بحرمانه من شيء ما مهما كان صغيرا أو كبيرا؟
والان بدلا من أن تكون أنت أول من يشعر بابنك وأهمية تعويضه عن كل حرمان مررت أنت به تقوم وبكل برود بحرمانه نفس الحق الذي حرمت انت منه.. كيف!
كيف لك أن تغدر بصديقك بعد ما ذقت مرار الغدر من أحدهم سابقا؟ كيف تتجرأ على مثل هذا الفعل بحق غيرك بعد أن خضت تجربة مريرة لنفس الشيء... كيف!
كيف تقسو على كل من حولك بعد أن عانيت الأمرين من قسوة الأيام والأشخاص من حولك؟ فبدلا من أن تحنو على من حولك تزداد بطشا وقسوة لتسلب الآخرين ذات الحق والشيء الذي سلب منك يوما... كيف!
كيف تظلم شخصا وأنت المظلوم الذي نام في فراشه ودمعته على وجنتيه مناجيا ربه أن يكون له منصفا، فتبطش بالعباد ظلما بعد أن أنصفك الله بجاه وسلطان لتنسى قهر المظلوم وتظلم الآخرين بدلا من أن تكون ابن الخطاب في عدله.... كيف!
كيف تنشر فسادا بعد أن كنت ضحية الفساد ذاته يوما لتبطش بعباد الله الصالحين كيفما يحلو لك بدلا من أن تنصفهم لدرايتك بعاقبة الأمور... كيف!
كيف تقابل الاحسان بالقبح والابتسامة بالبؤس والحب بالكره والعزة بالذل بعد أن كنت القبيح البائس الكاره الذليل... كيف؟
! يا من فقدت هذا أو ذاك، كيف لك أن تسلب الآخرين هذا وذاك؟! كيف
هل أعمم؟ لا، فسبق وقلت أن الرداء الأبيض تلطخ بوحل قذر وأن الشمس غطتها غمامة سوداء ولكن يبقى الأبيض أبيض والشمس بازغة في نهاية المطاف.
... لازلت أشجب تلك العبارة-حسب تفسيري- وبشدة
ففاقد الشيء يعطيه و ببذخ!
ولأجاري ما أراه في عالمي من واقع مظلم مرير أستنكره علي أن أقول: فاقد الشيء (يجب) أن يعطيه ببذخ! فلا تفقد شخصا ما فقدته أنت. ولا تسلب عزيزا عليك ما سلب منك طالما كان بوسعك ذلك. وان كان بمقدورك أن تعطي شيئا حرمت منه لشخص ما فأعطه ببذخ.