تتفنن سلطات الاحتلال في ابتكار طرق لتعذيب الفلسطينيين، ولعل أكثرها سادية ما تقوم به سلطات مصلحة السجون الاحتلالية من البحث عن كل ما يؤذي الأسرى الفلسطينيين، فتشبع غريزتها الوحشية في تعذيبهم في الزنازين والتحقيق وخلال الاعتقال وحتى في تنقلهم وترحالهم من سجن لآخر، أو من السجن إلى المحكمة، أو من السجن إلى المستشفى، فمن الضرورة أن يبقى الأسير الفلسطيني في رحلة عذاب دائمة بحسب عقلية قادة الاحتلال الذين يعملون على قتل نفسية الأسير الفلسطيني وتحطيمها.
وتبرز تراجيديا رحلة العذاب التي يمر بها الأسرى خلال نقلهم عبر ما يسمى (البوسطة) التي تعتبر بالنسبة للأسرى قطعة من الموت، يتفنن السجّانون الصهاينة عبرها في تعذيب الأسرى.
البوسطة
(البوسطة) حافلة جميلة المنظر من الخارج مطلية باللونين الأبيض والأزرق يتم عبرها نقل الأسرى ما بين السجون والمعتقلات وما بين المحاكم أو المراكز الطبية أو مراكز التحقيق الخاصة.
لكن البوسطة من الداخل هي عالم آخر، فهي زنزانة كبيرة متنقلة، لا بل قل عدة زنزانات، فهذه الحافلة لا نوافذ لها بل هي مغلقة تماما فلا تهوية فيها في الصيف ولا تدفئة فيها في الشتاء، كصندوق العجب!! وحتى لا يموت الأسرى خلال ترحالهم وتنقلهم من انعدام هواء التنفس فتحت فتحات بقياس 10×10سم في أعلى جوانب الحافلة، لكن الظلام يخيم عليها لعدم دخول الضوء.
وحتى يشفى السجان الصهيوني شهوته في الانتقام من الأسرى، نصب لهم مقاعد حديدية مثبتة بأسفل الحافلة حادة الزوايا غير مكسوة بالإسفنج أو الجلد أو القماش!! ففي الشتاء تنفث بردها وصقيعها وفي الصيف تكون صفيحا من نار.
أقسام البوسطة
تقسم البوسطة إلى عدة أقسام، القسم العام الذي يتسع لنحو عشرين أسيرا، وهناك زنزانة جماعية تتسع لسبعة أسرى طولها مترين ونصف وعرضها 70سم يكون فيها الأسرى كالسردين كما يقولون هم عن أنفسهم حالة وجودهم فيها، وهناك زنزانتين انفراديتين كل واحدة بمقاس 1×1م، حيث يوزع الأسرى داخل البوسطة كل بحسب ملفه الاعتقالي وتوصيات الشاباك (المخابرات)، فبعضهم في الزنزانة الانفرادية لأنه محظور عليه الاختلاط بالأسرى حتى خلال عملية النقل، ويتعمد سائق البوسطة أن يكون مسرعاً وأحياناً يتوقف فجأة فتلتطم رؤوس الأسرى ووجوههم بزوايا المقاعد وجدران البوسطة فتسيل دماؤهم.
حرس البوسطة
يشرف على عملية نقل الأسرى عبر البوسطة شركة أمنية خاصة تعمل مع مصلحة السجون يطلق على أفرادها (النحشون) حيث يتم اختيارهم بعناية من أصحاب الأجسام القوية ويتم تدريبهم بحقد دفين تجاه الأسرى، فيقومون بتفتيش الأسرى قبيل صعودهم إلى البوسطة بطريقة استفزازية حيث يؤمر الأسير بإدارة ظهرة ووجه على جدار البوسطة وهو رافع يديه للأعلى ويقوم جنود النحشون بدفع رجليه يمينا وشمالا وتبدأ عملية التفتيش من أخمص القدم حتى شعر الرأس، ويقومون بوضع (الكلبشات) في الساقين وفي اليدين وبخصوص أصحاب الأحكام العالية توضع كلبشات مزدوجة لليدين والرجلين وهي موصولة بسلسة معدنية ما بين كلبشات اليدين والرجلين فلا يستطيع الأسير عند نزوله من البوسطة أن يتنقل إلا خطوة خطوة، بل تؤخذ الكلبشات موقعها في جسده فتنهش لحمه ويسيل دمه.
تعرف فرقة النحشون بعنفها وصلفها فلا تسمح للأسير خلال البوسطة أن يتكلم وإذا ما رفع صوته ولم يلتزم بأوامرهم الجدية فإنهم ينهالون عليه ضربا من كل حدب وصوب بعصيهم الكهربائية ويرشونه في عينيه بغاز الفلفل الحار وفي هذه الحالة فان الكثير من الأسرى المعتدى عليهم يفقدون الوعي وينقلون إلى المستشفيات.
ولا تسمح قوات النحشون للأسير أن يدخل معه داخل البوسطة قارورة ماء او سجادة صلاة او مسبحة أو نسخة من مصحف أو أي نوع من الطعام أو صحيفة أو كتاب ومن يخالف ذلك يدفع ثمنا غاليا!
طول الانتظار
ينقل الأسرى عبر البوسطة من كافة السجون وخاصة عند نقلهم للمحاكم، فتتوقف سيارة البوسطة عند كل سجن لساعات لحمل الأسرى من هذه السجون، وعندما تكون رحلة الأسير من سجن في أقصى شمال فلسطين مثل جلبوع أو مجدو أو من سجن في أقصى جنوب فلسطين مثل معتقل النقب الصحراوي أو نفحة فإن عملية النقل حتى الوصول إلى المحكمة تستمر نحو عشرة ساعات! والأسرى في داخلها مقيدين بلا شراب ولا طعام ولا استخدام لدورة المياه لأنه لا يوجد أصلا بداخلها دورة مياه.. فيموت المرضى وخاصة مرضى السكري موتا بطيئا.
شهادات حية
يقول الدكتور عزيز الدويك رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني 75 عاما: كنت معتقلا في سجن مجدو في أقصى الشمال الفلسطيني عام 2008م وحتى عام 2014م وأتنقل في البوسطات عشرات المرات وكانت تمكث رحلة العذاب نحو 13 ساعة ونحن مكبلين في أيدينا وأرجلنا وعلى مقاعد حديدية فولاذية حادة نموت خلال الرحلة ألف مرة ومرة.
ويضيف الدكتور الدويك: نخرج إلى البوسطة منذ ساعات الفجر فتقف أمام السجن أكثر من ساعة حتى يكتمل العدد وتسير بنا لتتوقف مرة أخرى أمام سجن هشارون، ومرة ثالثة أمام سجن هداريم ومرة رابعة أمام سجن نيتسان الرملة ومرة خامسة أمام سجن عسقلان ونحن خلال هذه التوقفات نعتصر ألما من الكلبشات والقيود التي تنخر في أيدينا وأقدامنا وجميعنا دون استثناء محتقن يريد أن يقضي حاجته، والبعض يصرخ من الألم والبعض يشكو، والبعض الآخر يخفي قهره ودموعه، موضحا أنها رحلة قهر مبرمجة صنعتها العقلية العنصرية الصهيونية.
واعتبر الأسير المحرر محمود التميمي 53 عاما والذي تنقل في البوسطة أكثر من خمسين مرة وأمضى في سجون الاحتلال نحو عشرة سنوات في حديث خاص لمراسلنا: أن فلسفة تكوين البوسطة من أسوأ ما أنتج العقل البشري فرسالتها واضحة ومقصودة مفادها قهر الانسان الفلسطيني وعلى وجه الخصوص الأسير وتعذيبه على مدار الساعة، فالكثير من الأسرى تعجل في المحاكمة وقبل ما كانت تطرحه النيابة الاسرائيلية من أحكام ظالمة حتى لا يستمر في التنقل عبر البوسطة من السجن إلى المحكمة ومن المحكمة إلى السجن.
وأضاف الأسير المحرر التميمي أن بعض الأسرى تنازل عن حقه في العلاج وقبل أن يستشري المرض في جسده على أن يتنقل في رحلة الموت داخل البوسطة، كما أن بعض الأسرى فاضت روحه إلى بارئها داخل السجن هروباً من التنقل في البوسطة لأن ألم المرض أهون عليهم من ألم رحلة البوسطة.
وقال قدورة فارس رئيس نادي الأسير الفلسطيني والأسير المحرر الذي أمضى في سجون الاحتلال عدة سنوات: إن العقل الذي صنع البوسطة ليس عقل إنسان وليس عقلا بشريا إنما هو عقل شيطان بل عقل وحش مفترس لا يفكر إلا بافتراس ضحيته.
وأضاف فارس في حديث خاص لمراسلنا: إن العنصرية الصهيونية ونتاجها تجسد في هذا الإجراء العنصري ضد أسرى الحرية الذين حرمت القوانين الدولية والانسانية تعذيبهم، لكن الاحتلال الصهيوني البشع أجرم في حق الأسير الفلسطيني وصنع له أدوات قاتلة يحاول من خلالها تشكيل نفسية منهزمة له حتى يقبل بالاحتلال.
تلكم هي تراجيديا رحلة العذاب التي تمارس ضد الأسرى الفلسطينيين، ضد أكثر من سبعة آلاف أسير يقبعون في سجون الاحتلال من شمال فلسطين إلى جنوبها، يتعذبون عبر البوسطة صباح مساء في ظل صمت دولي على هذه الجرائم التي تتناقض مع الاتفاقيات الدولية الإنسانية.