بشار عبد الواحد لؤلؤة
0 حجم الخط
لا يبالغ امرؤٌ إذا ما زعم أن الغالبية الساحقة من العرب تجهل الشيء الكثير عن فن الباليه، ذلك الفن الرفيع الذي يزاوج فنون الرقص والإيماء بالموسيقى وتصميم الأزياء والمسرح في تناسق وتكامل أخاذين. إذ قد يكون الفرد العربي المتابع لفنون الأداء قد سمع بباليه “بحيرة البجع” والتسمية الأصح هنا “بحيرة التم”، أو “كسارة البندق” أو حتى “الحسناء النائمة”. فالباليهات الثلاثة هذه لبيوتر إيليش شايكوفسكي (1840-1893) وهي تشكل عماد ما يقدمه معظم فرق الباليه في العالم أجمع، إلا إذا كانت الفرقة متخصصة في أداء الباليه المعاصر وحسب.
أما أن يكون الذواقة العربي هذا قد سمع بمن سبق شايكوفسكي ومهد لباليهاته، ناهيك عمن تنافس مع شايكوفسكي من معاصريه أو أثر فيه فمهد هو له، فذلك أمر نادر ومؤسف في آن، إذ إن فن الباليه من أرقى الفنون على الإطلاق، بل هو يبزها قاطبةً، رهافةً ونبلاً، حين تتكامل عناصره في أيادي مبتكريه ومؤديه. ولعل عدم اعتماد الباليه الكلمات للتعبير هي الخاصية التي تجعله أوقع في نفس المشاهد، إذ إن حاجز اللغة الذي ينفرد به عالم الأوبرا معدوم أساساً! ففن الباليه الذي يشتهر بأنه لا ينبس ببنت شفة لهو ذلك الفن الذي يعقد لسان الحضور وكأن على رأسه الطير، ثم يظل يدور في المخيلة طوال العمر فتتعمق أجواؤه وتتبدى مغازيه وتتسامى ذكراه.
أما المؤلف الذي مهد لباليهات شايكوفسكي فهو آدولف آدم (1803-1856) الذي وُلد في باريس لابنة طبيب ولمؤلف موسيقي مرموق كان أستاذاً في البيانو لأربعة عقود ونصف في كونسيرفتوار باريس اسمه جان لُوي آدم (1758-1848) من منطقة الألزاس التي تنازعت عليها فرنسا وألمانيا لردح طويل من الزمن، فكان أن أنجبت أسماءً اشتهرت في مجالات شتى- مثل الواعظ القائل بتجديد التعميد، جاكوب أمان (1644- ما بين 1712 و 1730) الذي تيمنت به طائفة الآمش، والنحاتة التي اختصت بنحت الشمع، ماري تُوسو (1761-1850) وأفردت لذلك الفن متحفاً خاصاً به في لندن ما يزال يجتذب آلاف المتفاعلين مع محتوياته يومياً، دع عنك فروعه الثلاثة والعشرين على قارات أربع، والنحات فردريك أوغُست بارتولدي (1834-1904) الذي صمم تمثال الحرية (وعنوانه الأصلي: الحرية تُنير العالم) المُهدى إلى ميناء نيويورك، وضابط المدفعية ألفريد دريفوس (1859-1935) الذي كان قد اتهم بالخيانة العظمى فأحدثت محاكمته شرخاً عميقاً في المجتمع الفرنسي ما يزال ماثلاً للعيان حتى يومنا هذا، والعلامة والطبيب والموسيقار آلبرت شفايتسر (1875-1965) الحائز على جائزة نوبل للسلام لسنة 1952 والأخوين كونراد (1878-1936) ومارسيل شلومبيرجر (1884-1953) اللذين أسسا علم رصد الآبار، وفنان الدادا والسريالية جان هانز آرب (1886-1966) وفنان الإيماء مارسيل مارسو (1923-2007) والمنتج السينمائي ميشيل سيدُو (1947-) عم والد الممثلة الفرنسية الصاعدة ليا سيدُو (1985-) ومصمم الأزياء تيري مُوجلر (1948-) ومدرب فرق كرة القدم آرسين فنجر (1949-) وغيرهم كُثُر؛ إذ لكأن الطموح إحدى الجينات المتأصلة في كل طفل يولد في الألزاس، أو من أب أو أم ألزاسية.
ويُروى عن آدولف في صغره أنه كان يتهرب من المدرسة لا للهو أو عن كسل، بل كي يرتجل ما يحلو له من موسيقى على البيانو كي لا يتعمق في دراسة الموسيقى عن كثب بغية اكتناه أسرارها أكاديمياً. ولم يسمح له والده أن يتبع خطاه حتى بلغ سن السابعة عشرة، فكان أن تراجع عن تمنعه لكنه اشترط على نجله أن يدرس الموسيقى في كونسيرفتوار باريس بقصد أن تكون هواية له، لا مهنة يسترزق منها. فراح مؤلفنا يجتهد- على غير عادته- فلاقى نجاحاً لا بأس به بعد ثلاث سنين من المثابرة، وذلك في تأليف الأغاني للمسرحيات الترفيهية بالغة الشعبية في باريس قُبيل منتصف القرن التاسع عشر. وكانت تلك الأغاني بمثابة الخطوة الأولى تجاه أوبراته اللاحقة التي زادت عن الخمسين، وصوب ترنيمة عيد الميلاد بعنوان “الليل انتصف، أيها المسيحيون!” أو “الليلة المقدسة” التي ما فتئت تلاقي رواجاً شديداً في لغات شتى حتى يومنا الحاضر. لكن مجال أعماله الذي ينال اهتمامنا في هذا المقال هو باليهاته الأربعة عشرة، وأشهرها دون أدنى شك “جيزيل” (1841)، الذي نشأت قصته عن تلاقي نصين، أحدهما للكاتب الألماني هاينرخ هاينه (1797-1856) والآخر للروائي الفرنسي فكتور هُوغو (1802-1885) في مخيلة تيوفيل غوتييه (1811-1872)! فطلب من جول-هنري فيرنوا ده سان-جورج (1799-1875) أحد أكثر الكتاب المسرحيين غزارة في الإنتاج، أن يساهم في كتابة السيناريو للباليه. فمن هو غوتييه هذا؟
لقد ابتدأ غوتييه مساره كرسام، لكنه سرعان ما انصب على اجتراح الشعر وترجمة الشعر الألماني وتقديمه للقراء بالفرنسية من ناحية وعلى صياغة البيانات الأدبية الثورية من ناحية أخرى اعتباراً من 1826 بعد أن قدمه صديق عمره، الكاتب جيرار ده نيرفال (1808-1855)، للروائي فكتور هوغو، فكان أن قدم رؤيته البرناسية في 1835 القائلة بالفن للفن وحسب، ثم أضاف يقول: “كل ما هو مفيد فهو قبيح، لا محالة”. ورغم أن غوتييه كان شديد التذمر من اضطراره للكتابة الصحافية وللتحرير كسباً للعيش، مما كان يفوت عليه فرصة شحذ موهبته الشعرية، فقد كان ذا فصاحة تؤثر لا في قرائه وحسب، بل في أقرانه من الكتاب وفي الأدباء الذي جاؤوا من بعده. وكان منفتحاً على آداب أقوام أخرى، إذ كان يُكثر من الترحال إلى إسبانيا واليونان ومصر وغيرها، لذا لم يكن تلاقي هذين النصين سالفي الذكر محض صدفة، بل عن اطلاع ووعي ودراية، وبدافع التقرب من امرأة كذلك، عملاً بالمقولة الفرنسية: ابحث عن المرأة، يبطل العجب! لكن تصنيفه على أنه رومانسي وحسب غير مكتمل إذ إنه تنقل من الرومانسية إلى البرناسية والرمزية والجمالية والطبيعية فحاز على اعجاب الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير (1821-1880) والشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821-1867) حتى صار أحد ملهمي الحداثة بعد مماته في أشعار كل من الأمريكيين إزرا باوند (1885-1972) وتوماس ستيرنز أليوت (1888-1965).
أما كيف خطر لغوتييه على بال أن يتقدم إلى القائمين على فرقة باليه أوبرا باريس بمشروع عمل راقص جديد، فتلك حكاية في حد ذاتها، لا تخلو من الطرافة. إذ إن راقصة باليه إيطالية تُدعى كارلوتا غريزي (1819-1899) كانت قد أبلت بلاءً حسناً في لندن في 1836 فنالت شهرة عارمة بين ليلة وضحاها أوصلتها إلى باريس في 1840 مروراً بفيينا وميونيخ وميلانو. وحين حظي بمشاهدة أدائها، كتب غوتييه في رقصها يقول: “يتميز رقصها بعفوية الأطفال، وبحبور مرح جذاب”. وكان أن تُيم بها لكنها لم تبادله الحب، فما كان منه إلا أن تزوج من شقيقتها، أيرنستينا، مغنية الأوبرا، وكأنه يعدل عن بطيخة ما فيشتري شبيهتها! ثم كان أن أنجبت له زوجته ابنتين، أستل وجُوديت، وقُدر للثانية أن تكون إحدى عشيقات المؤلف الألماني الفذ ريشارد فاغنر (1813-1883) وما أكثرهن.
وتدور قصة باليه “جيزيل” التي تحوم فيها أعداد غفيرة من إناث الأشباح، حول فلاحة شابة غاية في الجمال تقع في شباك مغازلات الاقطاعي المتنكر بزي فلاح، آلبرخت، وحالما ينكشف مكرُه- إذ كان قد خطب شابة أخرى في السر- تفقد جيزيل صوابها وتلاقي مصرعها جراء حسرة القلب. فتستدعيها اناث الأشباح من قبرها للانتقام من الأرستقراطي الخبيث عن طريق ترقيص الذكور حتى الموت! لكن جيزيل تأبى أن يلاقي آلبرخت حتفه إشباعاً لرغبة جامحة في الثأر لها، إذ إنها تصفح عنه رغم خيانته البشعة لها، بل وتشفع له لدى إناث الأشباح فتنقذه من موت محقق، وتنقذ نفسها بالتالي من التحول إلى أنثى شبح هي الأخرى بفعل موتها قبل يوم زواجها.
قد يضل القارئ طريقه في متاهات هذه الحبكة ويجدها غريبة كل الغرابة، فنحن ما نزال في الحقبة الأدبية الفنية التي تُدخل في طيات نتاجها سحرة وعفاريت ومخلوقات أسطورية شتى كي تُجيز لنفسها على خشبة المسرح ما لا يمكن الإتيان به ولا تبريره على أرض الواقع- فنحن هنا بعيدون كل البعد عن الواقعية في الأدب والفن- وصولاً إلى الانتقال بالحضور إلى عالم يكاد لا يمت لعالمه بصلة كي يطلق الحضور العنان لخياله. لكن العظة الأعمق التي يخرج بها الحضور بعد مشاهدة هذا الباليه لا تدور حول دقائق الأمور بقدر ما تتلخص بالقيمتين الإنسانيتين القائلتين بالعفو عند المقدرة وبإنقاذ الآخر قبل الذات، وهذا ما حدا بالحضور إلى التماهي التام مع بطلة الباليه وإلى النظر إلى حال الإنسان من منظورها هي. وفصاحة هذه الرسالة هي كذلك ما جعلت إجماع النقاد آنذاك يفيد بأن باليه “جيزيل” أروع باليهات ذلك العصر، وهو خير وريث لباليه “السلفيد، أو الكائنة الأسطورية الرشيقة” (1832) للمؤلف الفرنسي المغمور جان شنايتسهوفر (1785-1852) بناءً على كتيب للتينور والكاتب والمؤلف الموسيقي آدولف نُري (1802-1839) بوحيٍ من أوبرا لجياكومو مايربير (1791-1864) بعنوان “المُتشيطن روبرت” (1831). وبالفعل فإن موسماً فنياً منذ الأداء الأول لباليه “جيزيل” في باريس في 28 حزيران/يونيو 1841 لم يمر دون أن يتم تقديمه بنجاح باهر المرة تلو الأخرى في عدة مدن من العالم.
وقد ركز النقاد في باريس في العام 1841- وهم على حق- على أن موسيقى مؤلفنا، آدولف آدم، كانت جميلة وسلسة وتبدو وكأنها مفصلة على أقدام الراقصين، لكنها لم تطغ على أداء الباليه على المسرح، إذ إن آدم كان مصمماً على تثبيت انتباه الحضور على الراقصين، لا على موسيقاه هو، خدمةً لرسالة الباليه الخالدة، وفي ذلك من التواضع الشيء الكثير.
القدس العربي