القدس العربي
هم مجموعة مهاجرين تربط بين بعضهم صلة النسب وبعضهم الآخر جاليتهم الصغيرة التي تعمل أو تلتقي في مقهى أبو نواس». جميعهم فرّوا من قمــــع نظام صـــدام حســـين، ومنهم ذلك الشيوعي الذي لا تزال ذاكرته، وكذلك أطراف جسده، تحمل آثارا من التعذيب الذي تعرّض له هناك. يضاف إلى ذلك شعوره بالخزي لكونه رضي بالقبول بصفقة أخرجته من السجن، في ما قضى أخوه وخطيبة أخيه فيه نحبهما.
في منفاه اللندني يحاول التكفير عن خيانته برعاية عائلة أخيه هناك، كما برعاية آخرين بينهم «أمل»، التي قدمت إلى لندن حاملة حكايتها العــــراقية الخـــاصة، حيث نكتشــــف، مع توالي مشاهد الفيلم، إنها لم تكتف بالحماية التي أتاحتها لها الإقامة في لندن، بل أضافت إليها تبديل اسمها وديانتها.
جميع من تتألف منهم تلك الجالية الصغيرة تمكنوا من أن يحقّقوا ذلك الانتقال نحو أن يكونوا في ذلك الوسط، بين العيش البريطاني والأصل العراقي. نلاحظ ذلك في لغة التخاطب بينهم، المازجة بين العربية والإنكليزية، حتى حين يكون الحوار دائرا بينهم بمعزل عن وجود غرباء. وهم متنازَعون في ذلك الازدواج، فالشاب الذي قطع أشواطا في جهره بمثليّته، كما في عيشها، يتربص به ذلك الأصل الذي وجد حرّاسا له هناك. أما «أمل»، جميلة الفيلم (تقوم بدورها زهراء غندور) فاضطرب سعيها نحو الاندماج التام بالحياة الأوروبية بعد أن فاجأتها عودة ماضيها. تمثّل ذلك بمجيء زوجها الذي بدا في الفيلم متسلّلا واشيا ومحرضا على القتل. وقد تمكّن من الوصول إلى كل من في المقهى، وكذلك إلى مسجد الجماعة المتطرّفة، ليثأر من زوجها، وقد رفضت عودته إليها.
لفيلم يدور إذن حول مطاردة العراق لمن تمكنوا من الإفلات منه. الرجل الواشي المتسلّل تعبير مباشر عن تلك المطاردة، إذ لن يتأخر مشاهدو الفيلم عن معرفة أنه كان مخبرا وجاسوسا للنظام العراقي، وها هو الآن المسؤول الثقافي في سفارته في بريطانيا. وقد أبدت تلك الجالية، جالية مقهى أبو نواس، هشاشة وضعفا في مواجهة هذا المتسلّل إذ بدا، بملامحة المغالية في إظهار الشر، وبالتحريض الذي لم يتطلب منه حنكة وذكاء، أن يتمكن من الجميع، بما في ذلك المقهى الذي راح يختتم الفيلم بمشاهد احتراقه.
أما العراق فيجري تذكّره بصور متغايرة، الرجل الشيوعي، الذي يعمل على رعاية الجميع هنا، يستعيد من العراق أقبية التعذيب التي يتعالى فيها الصراخ ويسيل فيها الدم.
سطوة العراق هي هنا، في لندن، مثلما كانت هناك في العراق. وقد اتسع مجال مطاردة أفرادها هنا بعد أن دفعتهم الحياة الأوروبية إلى أن يجهر كل منهم باختلافه. لم يكن ذلك الشاب ليعلن عن ميوله بهذا القدر لو كان ما يزال هناك في بغداد. أما «أمل» فلم تكن لتجرؤ على دعوة الشاب البريطاني إلى اللقاء. وفي علاقتها به كان ينبغي أن تظل متكتمة متخفية، كما كان ينبغي أن يظل الشاب المثلي كاتما سرّه.
أما العراق فيجري تذكّره بصور متغايرة، الرجل الشيوعي، الذي يعمل على رعاية الجميع هنا، يستعيد من العراق أقبية التعذيب التي يتعالى فيها الصراخ ويسيل فيها الدم. العائلة التي تدير المقهى تتذكر العراق بأغنية راحت تتشارك الترنم بها. بدت الأغنية في سياق الحدث الذي أحاط بها مُشعلة للحنين ومستفزة في الوقت نفسه، إذ بدت كأنها تُخرج الشاب البريطاني، عشيق «أمل»، وتحيّده من جمعهم. لكن رغم ذلك بدت الأغنية، بمفاعيلها المختلفة، بين التفاصيل الأكثر حقيقية في الفيلم. كأنها نقلت لحظة حنين حقيقية مصطبغة بتحدي الآخرين والإعلان، بحماسة ساذجة، عن الانتساب إلى زمن وجغرافيا مختلفين.
أبقانا الفيلم مشدودين إلى ما يتتالى من أحداثه طيلة عرضه. ساعدت على ذلك المشاهد السريعة، بل الخاطفة، المتنقلة بين الماضي والحاضر والتي تلتم فيها بالتدرج السريع أحداثه المتقطّعة صانعة تسلسله. ولم يكن الربط بين المشاهد المتناثرة صعبا إذ كنا، كمشاهدين، غير محتاجين إلى تفكير كثير لنعرف ماذا تمثل كل من هذه الشخصيات وإلى ماذا سيوصلها الفيلم. المتدين الأصولي، على سبيل المثال، لن يُضيّع أحدا، كما لن يتشكك أحد بطبيعة الدور الذي جاء الجاسوس العراقي ليؤدّيه. ولن يخفى مصير الشاب المثلي عن مشاهديه. في الفيلم بدت هذه الشخصيات، كما أدوارها، مثل قطع ثابتة في لوغو مركّب. شخصيات سبق لنا أن شاهدناها وقرأناها في روايات وكتب، لكن ما يختلف هو أنها نُقلت إلى هناك هذه المرة، ليجري تجريبها حادثةً في بلاد أخرى.
*من ضمن أسبوع «عراقيات» الذي أحيته «دار النمر» في بيروت، وتضمن أعمالا ثقافية وفنية عدة، شارك فيلم «بغداد في خيالي» للمخرج العراقي- السويسري سمير جمال الدين، في عرض أول له.