مع رحيله المفاجئ، يوم الخميس 10 أكتوبر الماضي في القاهرة، لمسنا الكثير من التأثّر من زملاء شوقي الماجري من الفنانين التونسيين، وهو ما يدلّ عن مكانة خاصة للراحل في قلوب هؤلاء، وفي ذلك الكثير من الصدق. غير أننا لو نظرنا في مساره الفنّي سنجد بأن صاحب مسلسل "تاج من شوك" كان يعاني من بيئة ثقافية طاردة في بلده تونس. ألا نلاحظ ذلك بشكل جليّ في قائمة المسلسلات التلفزيونية التي أخرجها وفيلمه الوحيد "مملكة النمل"؟ ألا يحضر بوضوح هنا غياب عمل تونسي له. فقط، حضر بعض الممثلين من مواطنيه في عدد من أعماله وساهم بعض المنتجين في إنجاز أعمال أخرى، خصوصاً مع الإشعاع العربي الذي عرفه الراحل مع بداية الألفية، وكانت أعماله جزءاً من حالة الازدهار الذي عاشته الدراما السورية آنذاك.
لعلّ أحد المشاريع الأخيرة لشوقي الماجري تلخّص بعض ما عرفته مسيرته في علاقته بتونس، فقد كانت الثورة في 2011 سبباً في التذكير بشخصية علي بن غذاهم، الثائر التونسي الذي تمرّد على حكم الأسرة الحسينية منتصف القرن التاسع عشر، قبل أن يجري التلاعب بالمطالب الشعبية ويجد نفسه مسجوناً في أقبية العاصمة. إلى حد كبير بدت مآلات ثورة 2011 في تونس شبيهة بثورة 1864، وقد وقع استحضارها كثيراً من المثقفين خصوصاً في أحداث القصبة.
ضمن هذا السياق، جرى التفكير بجدية - منذ 2012 - في إنجاز فيلم أو مسلسل حول هذه الفترة، فراجت أخبار عن تقدّم في هذا الاتجاه. بدا شوقي الماجري الأكثر كفاءة لهذا المشروع، فقد حقّق الاعتراف بقدراته الإبداعية من جميع الدوائر الثقافية التونسية إضافة إلى أنه ينحدر من نفس الأصول التي ينحدر منها بن غداهم وكان ذلك سبباً في حماسته المعلنة لهذا العمل، وهكذا راجت الأخبار عن مشروع تاريخي ضخم جمع إضافة إلى شوقي الماجري كلاً من المنتج نجيب عيّاد والكاتب حسنين بن عمّو، المتخصّص في الروايات التاريخية.
انتظر المتابعون طويلاً ظهور هذا العمل، غير أن الماجري ظلّ يقدّم أعمالاً أخرى كدأبه من سورية ومصر، وأنتجت في تونس أعمال تاريخية أخرى ولم يظهر "علي بن غداهم". في 2018، صدرت رواية "عام الفزوع" لحسنين بعمّو والتي كانت نتاج المشروع المجهض للمسلسل التاريخي، وهو ما أشار له المؤلف، بسبب عدم اتفاق الشركاء، لذلك قرّر أن يحوّل ما أنجزه من سيناريو المسلسل إلى رواية.
بغضّ النظر عن المسؤول عن ضياع المشروع، فإن النتيجة تظل ذاتها: بقي العمل التاريخي مجرّد حلم. وهو بالتأكيد مشروع ضمن سلسلة من المشاريع المجهضة الأخرى في بلاده، فما الذي دفع الماجري من البداية إلى البحث عن آفاق أخرى، وهو المتخرّج من إحدى أبرز مدارس السينما في أوروبا، المعهد الوطني للسينما والمسرح والتلفزيون، في وودج البولندية، المدرسة التي باتت معروفة بأنها أطلقت للعالم كريستوف كيزلوفسكي ورومان بولانسكي وكريستوف زانوسي.
حين نتحدّث عن بيئة ثقافية طاردة، فإن الأمر لا يتعلّق فقط بالتضييق السياسي (والذي كان على أشدّه في تونس نهاية التسعينيات)، أو على حزازيات بين الفنانين، بل إن الأمر يتعلق أيضاً بالمفردات الفنية المتداولة، وهل كان المشهد البصري التونسية جاهزاً لتقبّل شاعرية الصورة التي يقترحها شوقي الماجري، أو رؤيته في قراءات تاريخية مختلفة تصوغها الدراما بعيداً عن حرفية النص التاريخي؟
هكذا بقي التونسيون يتابعون، من رمضان إلى آخر، خطوات ابنهم في أعمال درامية بتكاليف إنتاج خرافية، من مغامرته في إخراج الجزء الثاني من "إخوة التراب" إلى "دقيقة صمت" آخر أعماله. وبينهما محطات كانت تتراكم فيها تجربته وتنضج بالتدريج، نذكر هنا مثلاً بصمته الإخراجية في مسلسل "عمر الخيام" (2002) والذي تزاوجت فيه شاعرية الكاميرا برسائل سياسية ضمنية حيث تناول العمل سيرة الشاعر الفارسي في زمن كثرت اضطراباته فكان غير بعيد عن حال العالم وقتها بعد شهور معدودة من ضرب بُرجي نيويورك.
بذلك، وضع الماجري نفسه كأحد أبرز منجري المسلسلات التاريخية التي كانت تعيش وقتها زمنها الذهبي في التلفزيونات الغربية، لينجر بعدها "أبناء الرشيد" في 2006، ثم "أبو جعفر المنصور" بعد سنتين، وهي أعمال حققت تلك المعادلة في الجمع بين حرفية النص والحكاية والأداء والمشاهد والأزياء مع سهولة تقبّل من مشاهديه.
ضمن الأعمال التاريخية، برزت أيضاً روح التنويع لدى شوقي الماجري حيث اتجه نحو السيرة المثيرة والغامضة لأسمهان، أو حين عرّج على الحملة الفرنسية على مصر في "نابليون والمحروسة"، دون أن ننسى عمله "الاجتياح" (2007) والذي يمكن أن نصنّفه ضمن "التأريخ للراهن" كما يفعل المؤرخون حين يتصدّون إلى الأحداث القريبة منهم زمنياً.
هكذا كانت التجربة الإخراجية تتراكم، وتظهر صنعة في الإمساك بجميع عناصر الفرجة مع الحفاظ على أسلوب قوامه شاعرية الصورة والانتماء للحظة التاريخية. وربما عند شعور باكتمال الأدوات ضمن الدراما، فكّر الماجري في خوض تجربة السينما، فأخرج في 2012 فيلم "مملكة النمل" فأعاد القضية الفلسطينية للشاشة الكبيرة وبدا كم يذكّر الجماهير في بلدان انشغلت بشؤونها الداخلية بعد منعطفات 2011 مثل تونس ومصر وسوريا بأن المعركة الأكثر شراسة للأمة هي مع الكيان المحتل.
طوى الماجري مشاريعه إلى الأبد، وبقيت غربته عن تونس أبدية. يبقى منه تلك الصور التي اقترحها على المشاهد العربي، ليست أكثر من صور، ولكنها كانت تمرّر رسائل جديدة ومنطق رؤية مختلف. صور تسكنها الشاعرية العميقة، والتي تعيش هي الأخرى غربتها بيننا.