القدس العربي
في فيلمه الجديد «ميانتراس دوري لاغيرا» يقدم المخرج الإسباني أليخاندرو أمينبار رؤيته الإبداعية لأحد المواضيع الشائكة، التي مازالت تلقي بظلالها على الحاضر، والمتمثلة في الحرب الأهلية التي تطفو على السطح، وتنغص حياة المجتمع الإسباني، رغم محاولته تجاوز ذلك الماضي. ذلك من خلال حكاية البركة التي أوصلت الجنرال فرانكو إلى حكم إسبانيا، وانتفاضة ميغيل دي أونامونو المتأخرة.
طيلة زمن الحرب
(طيلة زمن الحرب)، عبارة استقاها المخرج من اقتراح لحل وسطي ألقاه بعض أنصار القيادة الجماعية للمجلس العسكري، بعد صراع مع مؤيدي استفراد جنرال واحد بالحكم، حيث يبرز الفيلم أن مطلب جعل القيادة في يد شخص واحد كان مطلبا ألمانيا ملحا. وبعد اجتماع مغلق للمجلس، حاز الجنرال فرانكو ثقة الأغلبية، وتمت إضافة جملة طيلة زمن الحرب في تقرير الاجتماع. لكن فترة حكمه ستستمر إلى غاية وفاته.
الولي الصالح فرانكو
في معرض دفاعه عن أحقية الجنرال فرانكو في قيادة المجلس العسكري، اعتبر ميان أستراي، قائد الفيلق الأجنبي المعروف باسم «لاليخيون»، أن فرانكو يتمتع بما يسميه المغاربة بـ «البركة»، وهي هبة إلهية تجسدت في شجاعته النادرة، وعدم إصابته بالرصاص رغم اختراقه لسرواله العسكري! سيتمكن فرانكو من قيادة المعسكر الوطني، وإعادة العلم الملكي، المعمول به إلى اليوم، بعد إزالة علم الجمهوريين وزرع الرعب في معارضيه وتقتيلهم. ويتناول أليخاندرو أمينبار فترة بداية الحرب الأهلية، التي عرفت انقساما واسعا بين الإسبانيين، حيث تم الانقلاب على حكم الجمهوريين. وأصبح المجتمع الإسباني مشتتا بين مساندين للجمهورية ومؤيدين للحكم العسكري، وما بين ملكيين يحنون إلى العهد الملكي.
في تلك الفترة، لم يكن المثقف الإسباني خارج الصراع، بل كان قطب الرحى الذي تتجه إليه الأنظار، سواء من طرف الشيوعيين أو الجمهوريين أو من العسكريين الذين يبحثون على سند المثقف أو على الأقل صمته.
واختار المخرج الإسباني أن يقدم سيرة الأربعة أشهر الأخيرة من حياة ميغيل دي أونامونو (1864-1936) أكثر المفكرين المثيرين للجدل في تاريخ إسبانيا المعاصرة، الذي عايش تلك المرحلة بتقلباتها وتناقضاتها، حيث ما تزال مواقفه السياسية، تحجب قيمته الأدبية والفكرية.
ويقدم الفيلم مواقف دي أونامونو المتذبذبة بالنسبة لمنتقديه، لكنها تمثل قناعاته الشخصية التي ليس من الضروري أن تنال إعجاب المنتقدين، كما يبرز الفيلم قيمة المثقف الذي يحظى بالإعجاب، من طرف زوجة الجنرال فرانكو وعساكره، ويبين كيف سيستند الجنرال إلى إحدى مقالات دي أونامونو، التي وقعها بصفته عميدا للجامعة، لتبرير تدخله، حيث سيعتمد على جملة «الدفاع عن الحضارة المسيحية الغربية»، ويروي الفيلم، بطريقة ذكية، تأثير المثقف على نخب الجيش، حيث سيظهر فرانكو، قبل أن يصبح حاكما، في لحظة ضعف عندما سيقترب من الكاتب الإسباني ويبلغه إعجاب زوجته الشديد. تعرض دي أونامونو للعزل من منصبه كعميد لجامعة شلمنقة (سالمانكا) العريقة من طرف الجمهوريين، وأعاده المجلس العسكري لمنصبه وتمت ترقيته لمنصب مفوض للمدينة، حيث أصبح ملزما بالتعامل مع العسكريين وجها لوجه بعد أن كان يراوغهم. ساند مؤلف «السلام في الحرب» انقلاب العسكر، واعتبره منقذا من سطوة الشيوعيين والماسونيين، بل ساهم بماله لفائدة الانقلابيين، حيث تعرض لانتقادات شديدة، خاصة من طرف أفراد أسرته.
ظل دي أونامونو ينفي المجازر التي كان يقوم بها المعسكر الوطني، بل أدار الظهر لاغتيال الشاعر فريديريكو غارسيا لوركا معتبرا إياها مجرد إشاعات. عند تعرض صديقه الكاتب سالبادور بيلا للاعتقال، سيتوجه لتقديم استعطاف للجنرال فرانكو في مقر إقامته الجديد في مدينة شلمنقة قصد العفو عن صديقه ومجموعة من المعتقلين إلا أن طلبه قوبل بالرفض من طرف الحاكم العسكري.
يدرك أليخاندرو أمينبار، أن مشروع تصوير فيلم عن الحرب الأهلية عملية محفوفة بالمخاطر، خاصة في ظل الوضع الذي تعيشه إسبانيا اليوم.
انتفاضة دي أونامونو
بعد عودته جارا أذيال الخيبة، جعلته يعيش إحباطا كبيرا وعزلة، سيقرر الكاتب مواجهة العسكر في رحاب الجامعة التي عرفت الاحتفال بـ «ديا دي لا رازا» الخاص باكتشاف أمريكا اللاتينية، فقد حضر الكاتب بصفته عميدا للجامعة، وواجه مدرجا مملوءا بالعساكر، حيث قال كلمة في حضور كارمن بولو، زوجة فرانكو، وميان أستراي، قائد الفيلق الأجنبي الموالي لفرانكو، «قد تنتصرون لكن لن تقنعوا» عندها صاح الجنرال وبقية العسكر «الموت للمثقفين ويحيى الموت». وأمام ذهول الجميع سينجو الكاتب الثائر من موجة غضب العساكر، التي هددته بالقتل، بعد خروجه في حماية زوجة فرانكو.
الفيلم وتقنياته
تطلب تصويرالفيلم التنقيب في المصادر التاريخية، سواء في ما يخص الأحداث والوقائع أو أماكن التصوير والملابس والديكور والعتاد العسكري الخاص بالمرحلة، وتم تصوير الفيلم في الأماكن التي شهدت الوقائع التاريخية كخزانة جامعة شلمنقة، التي ما زالت على حالها، أو عن طريق خلق ديكور خاص بمدن مدريد وطليطلة .من ناحية أخرى يقدم السرد الفيلمي خطين متوازيين لعالمين من الشخصيات، يجمع بينها الانتماء للأرض ذاتها وتفرقها الرغبة في بسط نفوذها والاستيلاء على الحكم مهما كلف الثمن من الاعتقالات أو التقتيل، الذي نجح الفيلم في التعبير عنه، بدون اللجوء إلى مشاهد مرعبة وعنيفة، حيث كان صوت إطلاق النار الذي يسمع خارج الحقل كتعبير على تصفية المعارضين، ويمكن اعتبار أن الظهور السريع للقطة تظهر جثت قتلى، في طريق سير موكب الفيلق العسكري، كتعبير عن أن تقدم تلك القوات كان على أنقاض الضحايا.
المناخ الفاشي
يدرك أليخاندرو أمينبار، أن مشروع تصوير فيلم عن الحرب الأهلية عملية محفوفة بالمخاطر، خاصة في ظل الوضع الذي تعيشه إسبانيا اليوم. يقول أمينبار في ندوة صحافية بعد عرض فيلمه في مدينة سان سيباستيان .. «فإذا اعتقدنا قبل ثلاث سنوات أن إخراج هذا الفيلم يمكن أن يكون ذا صلة أو غير مناسب، فقد أصبح الآن أكثر صلة … نشهد حاليا انتعاش الفاشية، والتي عندما اعتقدنا أنها قد انقرضت أو كانت جزءا من أساطير معينة، اتضح أنها صارت أكثر حضورا في بعض المواقف التي تهيمن على الخطاب السياسي الحالي … الآن هناك ما يشبه قفزة جيلية، فنحن الذين نشأنا خلال فترة الانتقال، أدركنا أنه على الرغم من كونه حلقة تاريخية درسناها في المدرسة، فإننا نعرف القليل جدا عن كل ذلك. لقد مرّ جيلنا بالحرب الأهلية على رؤوس الأصابع».