القدس العربي
الاقتراب من الأجواء العالمية هي غاية كل المهرجانات السينمائية، العربية والشرق أوسطية، ومحاولات التقليد التي تبدأ عادة في طقوس الافتتاح من السجادة الحمراء، واحدة من مظاهر المحاكاة للمهرجانات الكبرى، كبرلين وكان والأوسكار، وهذه مسألة تتكرر باستمرار، رغم الحديث الدائم والمستهلك عن خصوصية السينما العربية ومميزاتها وتاريخها، وطبيعة ما تقدمة من قضايا وموضوعات لها صلة بجمهورها ومحيطها الثقافي والتنويري والإبداعي.
كل هذا لا يعدو كونه دعاية لترويج المنتج السينمائي العربي وحسب، حيث اللهاث وراء التقليد والأفكار المستوردة واللجوء إلى تزيين حفل الافتتاح بأفلام من خارج دائرة الإبداع العربي، يؤكد أننا ما زلنا أسرى للثقافة الأمريكية والغربية، ولم نتحرر بعد من سطوة الاستعمار الفكري، وهيمنة الثقافة الوافدة، والإحساس الداخلي بأن ما ننتجه كمجتمعات عربية أقل شأناً من تلك المصنفات الفنية المُبهرة، التي تغذي فينا عقدة المنتج الأجنبي!
ما تم الإعلان عنه من اختيار الفيلم الأيرلندي «ذي أيرشمان» لافتتاح الدورة 41 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، واستقبال الخبر بعاصفة من التأييد والتهليل، يُرجعنا إلى القضية ذاتها، وهي عدم الثقة في الإبداع المصري والعربي، والشعور الدائم بأن البديل الأمريكي والأوروبي هو الأفضل، علماً بأن المهرجان نفسه طرح مراراً وتكراراً هذه الإشكالية، وخرج بعشرات التوصيات التي تطالب بأن يكون افتتاح المهرجان المصري العربي بفيلم مصري أو عربي، كي تتوثق الصلة بين الحدث والهوية فيكون الافتتاح دالاً عليها، وقد تمت عدة مناقشات في هذا الصدد لها صلة بالموضوع، وقُدمت بعض الاقتراحات حول اختيار فيلم مصري، أو عربي في الختام، في حالة عدم وجود فيلم ملائم للافتتاح ليتحقق الغرض ولو بشكل نسبي لإحداث التوازن المطلوب في المعادلة الثقافية، بشقيها العربي والأجنبي.
ولكن عملاً بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة فلم يلقي أحد بالاً لهذه القضية، ومضى مهرجان القاهرة والعاملون عليه في غيهم قاصدين الوصول للهدف السامي، وهو عالمية المهرجان الشكلية، بدون ربطها بالمردود الحقيقي المستهدف، وهو تأكيد الثقافة المصرية والعربية، كمكون مهم من مكونات التواصل الحضاري بعيداً عن ضروريات اللغة. لقد تم اختيار الفيلم الأيرلندي «ذي أيريشمان» على خلفية التأثير الجماهيري الكبير للأبطال الثلاثة الحاصلين على جائزة الأوسكار، وهم آل باتشينو وروبرت دينيرو وجوبيشي، وبالطبع عزز من عملية الاختيار وجود المخرج العالمي مارتن سكورسيزي، أما القصة فكانت عنصراً من عناصر الاهتمام بالفيلم، كعمل فارق من وجهة نظر من رشحوه واختاروه ليكون واجهة المهرجان السينمائي الرسمي لمصر، فالأحداث تدور في إطار بوليسي مثير حول انتشار عصابات القتل والجرائم المنظمة في الولايات المتحدة الأمريكية وتنامي خطرها في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، واستمرار هذا الخطر لسنوات وعقود، عاشت خلالها أجيال من الأمريكيين تحت التهديد.
ويركز الفيلم بالأساس على الجريمة الأكثر غموضاً في تاريخ السجل الجنائي الأمريكي وهي، المتعلقة باختفاء الزعيم النقابي جيمي هوفا، الذي يجسد شخصيته آل باتشينو في محاولة لإلقاء الضوء بشكل بانورامي على ملابسات الجرائم السياسية التي وقعت في الولايات المتحدة في تلك الفترة، والعلاقات التي تربط زعماء المافيا برجال السياسة والسُلطة، ويحتل هذا المحور مساحة مهمة يتصدرها روبرت دينيرو، الذي يقوم بدور واحد من مجرمي هذه العصابات في ضوء الفكرة الجوهرية، التي تقوم على فضح التاريخ الأسود لبلاد الكاوبوي، وما تضمنه من جرائم قتل منظمة، يبحث الفيلم في أغوارها وخفاياها، ليقدم الصورة الدرامية المعادلة للواقع الأمريكي، إبان اندلاع الحرب العالمية الثانية وما بعدها، الذي شاعت فيه الجريمة السياسية كأحد أهم ملامح القسوة وانعدام الحماية والأمان، وهو طرح مقصود ومدروس من جانب صُناع الفيلم، يُبرز أهمية السينما كمادة وثائقية تعتني بتقديم المسكوت عنه مهما كانت طبيعته.
وفي السياق نفسه يقدم النجم الثالث من الأبطال أصحاب امتياز الأوسكار جوبيشي دوراً نوعياً ومختلفاً لزعيم آخر من زعماء المافيا، ليكمل الصورة الإجرامية ويضيف بأدائه المتميز جديداً للحالة التراجيدية بمعناها الجنائي وخلفياتها السياسية.
من ناحية أخرى يقدم مهرجان القاهرة السينمائي خلال دورته المقبلة 150 فيلماً من 63 دولة طوال فترة انعقاده، التي تبدأ من 20 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل وتنتهي في 29 من الشهر نفسه، يضاف إلى هذه الأفلام أيضاً 30 فيلماً ما بين روائي طويل وروائي قصير تُعرض على هامش المهرجان، كما تم الاتفاق على 90 فيلماً مهماً حصلت إدارة المهرجان على حقوق عرضها الأول في الشرق الأوسط وشمال افريقيا في إطار التبادل الثقافي والسينمائي بين المهرجان وعدد من دول المنطقة.