تشكل التجربة الشعرية، في جوهرها، مساهمة ثقافية وإبداعية ووجدانية في صياغة العلاقة الجدلية بين الإنسان والمكان والتاريخ. وهذه العناصرالثلاثة تشكل الهوية الذاتية في بعديها الفردي والجماعي، وتندرج فيها رؤية الشاعر للواقع بكل عناصره.
في ضوء ذلك، تمثل تجربة درويش صياغة إبداعية لعلاقة الذات بالواقع، ومحاولة لتأسيس هويتها.
وإذا جاز لنا، على صعيد المعجم الشعري، اختيار معادل رمزي للهوية فإننا نجده متمثلا في (الاسم) بما ينطوي عليه من دلالات رمزية وثقافية، حيث يمكن النظر إليه بوصفه "مسكنا رمزيا تأوي إليها الذات في أقصى لحظات الغربة من أجل تأكيد هويتها وتأبيد وجودها" .
وقد فرضت خصوصية الحالة الفلسطينية على الشاعر أن يتخذ موقف المواجهة الحضارية الشاملة مع العدو كان مدارها الهوية ممثلة بالاسم "الذي حاولت إسرائيل محوه، ليس عبر التطهير العرقي فحسب، بل عبر محو علاقة الاسم بالمسمّى، وتزوير الواقع". وقد استدعت هذه الحالة بروز ظاهرة ماثلة بجلاء في شعره يمكن أن نطلق عليها (تضخم الذات الجماعية). وقد تعززت هذه الظاهرة بسبب تعقد القضية و وصولها إلى طريق مسدود.
تتسم تجربة درويش، على المستوى الفني، بقدر كبير من الثراء والتحول الدائم على مستوى الرؤية والتشكيل. استنادا إلى ذلك نعثر لديه على تحولات واضحة توقف عليها الباحثون. وبمقدورنا رصد هذه التحولات، على نحو خاص، بتتبع التحولات الطارئة على دلالات (الاسم)، بدءا بشعر البدايات الذي اصطبغ بالطابع المحلي.
وقد كان الشاعر، في هذه المرحلة يحاول أن يسترجع الاسم الفلسطيني الذي يريد الاحتلال محوه، كما كان جهده منصباً على منح الهوية الوطنية وجودها وشرعيتها. ومع اتساع تجربته وانفتاحها على أبعاد كونية ، اتسمت الهوية الوطنية لديه بطابع كوني تندرج فيها الهوية بمستوياتها المتعددة، وقد تركت أصداءها في دلالات (الاسم). ثمة تحول ثالث برز لديه في مرحلة متأخرة تمثل في النزوع نحو الفردية.
وتحمل هذه التجربة في شتى مراحلها ومضامينها جملة من السمات الأساسية والمكونات الجوهرية، ومن أبرزها الطابع الدرامي، وهو ناجم عن رؤية الذات الإشكالية للوجود. وقد فرض هذا الطابع على هذه التجربة جملة من الثنائيات تعكس الحالة الجدلية الحوارية بين الذات والواقع بكل مكوناته وتفاصيله، وتوحي بالعلاقة المتوترة والملتبسة للذات بنقيضها. تبعا لذلك تتسم التجربة بحالة من التوتر والارتباك تطفو آثارها بجلاء على سطح القصيدة عبر طريقة تشكل اللغة الشعرية بمفارقاتها، وتضاداها، وتعدد أصواتها.
وتتجلى هذه الطبيعة الدرامية الجدلية في تتبعنا للمعجم الشعري لدرويش، وللفظة (الاسم) بالتحديد. وتبرز ثنائية الحضور/ الغياب بوصفها الثنائية المحورية التي تتحكم بسيرورة تجربته.
نشير هنا إلى دلالة هذين المصطلحين، فهما يتخذان طابعا فلسفيا وجوديا يعكس موقف الذات من العالم. ويوظفان للدلالة على مدى وعي الذات بالقدرة على الانسجام أو القطيعة مع وجودها الخاص.
فالحضور، بهذا المعنى، يشير إلى حضور الذات في الواقع وإلى قدرتها على تأسيس وجودها الخاص، بينما يشير الغياب إلى عجزها عن التواصل مع واقعها بسبب جملة من العوامل. وبهذا تظل الذات متأرجحة على نحو جدلي بين قطبي هذه الثنائية، ويفرض عليها حالة مستمرة من التوتر والتناقض، كما يضفي على التجربة طابعا دراميا واضحا.
نلحظ في رصد تجربة درويش هيمنة هاجس الحضور والغياب بطبيعته الجدلية منذ بداية تشكلها. ويبرز هذا بوضوح في ديوانه (تلك صورتها وهذا انتحار العاشق)، حيث تشكل هذه الثنائية المحور الأساسي للرؤية الشعرية، وتتبدى على شكل لازمة متكررة تؤكد وعي الذات الحاد بانفصالها عن وجودها الحقيقي:
أنا المتكلم الغائب
أنا الحاضر
يلخص هذا النص، بدقة متناهية، رؤية درويش الشعرية، فهي تتأسس على قطبي الحضور والغياب. وتتضح من خلاله أبرر سمات البنية الوجودية للذات القائمة على التضاد، فالحضور، من المنظور الفلسفي، لا يكتسب معناه الأخير إلا باستحضار نقيضه الغياب كما لا يمكن تصور الذات بدون الآخر.
يبدو وعي الذات بطبيعة حضورها منذ البداية، فهو يتسم بالاضطراب والتوتر. وعلى هذا النحو تتشكل هذه الثنائية بسماتها الجدلية التي تمد التجربة بزخم درامي يسهم في منحها حركيتها وصيرورتها. وتتأسس العلاقة في النص بين الذات والواقع بشتى تجلياته وفق المعادلة التالية:
الذات--- ---الآخر
الحضور--- الغياب
فهي تنهض على التناقض الذي يصل أقصى حدوده حين تعلن الذات انفصالها عن كينونتها. وتغدو التجربة، هنا، صيرورة تتحرك داخل فضاء مليء بالتناقضات والمفارقات من شأنها بث الدينامية في ثنايا النص.
ثمة نماذج كثيرة من شعر درويش تستحضر هذه الثنائية وتبرز أثرها في تشكيل رؤيته الشعرية القائمة على التوتر والانفصام، ومنها قوله:
لم أكن حاضرا
لم أكن غائبا
كنت بين الحضور و بين الغياب
وتتأكد كثافة هذه الثنائية بطبيعتها الجدلية، على نحو خاص، بمتابعة لفظة (الاسم)، ونعرض جملة من النماذج توضح هذه الثنائية، مثلما نجد في قصيدة (سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا):
ما اسمك؟
-نسيت
-ما اسم أبيك؟
-نسيت
تظهر الذات هنا - ممثلة بسرحان الشخصية المحورية في القصيدة- وهي في حالة حوار داخلي تتضح من خلاله أبرز ملامحها النفسية والوجودية ، فهي تتسم بالتوتر والتناقض، وتستبطن وعيا حادا باغترابها عن وجودها، وإحساسا متناميا بفقد ملامحها الإنسانية؛ جراء رحيلها القسري عن المكان.
على المستوى الفني جاء المعجم الشعري متناغما مع هذه الرؤية، وهو ما يلمسه القارئ في الحضور المكثف للفعل (نسيت) في دلالته على سيرورة إحساس الذات بالغياب والانفصال عن ذاكرتها.
على أن هذا الإحساس السلبي سرعان ما يأخذ بالتحول إلى نقيضه تبعا للطبيعة الثنائية للرؤية. ويشكل هذا التحول، بدوره، محفزاً للذات على الفعل والتغيير، ولنا أن نتابعه وهو يتنامى عبر القصيدة مضفيا عليها طابعاً دراميا واضحا يسمها بالتناقض والالتباس، لنصل في النهاية إلى الحدث الرئيسي في القصيدة وهو (القتل) أو الاغتيال السياسي الذي تقوم به الشخصية.
في متابعتنا للقصيدة نواجه سقوط الذات في الاغتراب؛ نتيجة صراعها الداخلي العنيف و تأرجحها الحادّ بن إحساسين متناقضين: إحساس بالحضور و الغياب في آن واحد. وهو إحساس يملأ جنبات ديوانه نظير ما نجد في قوله:
أفي مثل هذا الزمان تصدق ظلك، في مثل هذا الزمان تصدق وردك؟
وَتَلْفظُ اسمك واسْمَ بِلادِكَ واسْمي مَعاً
بِلا خَطَأ، يَا رَفيقي، كَأنّك تَمْلِكُ شَيْئاً، كَأنّك تَمْلكُ وعْدكْ!
تبدو الهوية الذاتية في النص غير محسومة تماما، وهو ما نستشفه من توزع الذات في إحساسها بذاتها بين الحضور والغياب، فهي تشكك في حضورها، فتحس و(كأنها) تملك شيئأ ولا تملكه، وبهذا يظل حضورها غير مكتمل.
وبذلك لا يجد قارئ درويش كثير عناء في استكشاف طبيعة رؤيته الثنائية التي تفرض على الذات الشاعرة حالة من التوتر والتناقض يجعلها، على نحو دائم، متأرجحة بين لحظتين متعارضتين: لحظة الحضور ولحظة الغياب؛ الأمر الذي يمنح التجربة طابعا جدليا ويضفي عليها سمات دينامية ودرامية.