"في كل مرة التقي فيها مع الشين بيت، أتعلم شيئا جديدا عن حياتي، لم يكن ما يحصل معي نتيجة لغسل دماغ تتم عن طريق التكرار أو الحرمان من الطعام والشراب، بل ما تعلمته كان اقرب إلى الحقيقة والمنطق أكثر من أي شيء تعلمته في حياتي".
كانت تلك الكلمات هي المرحلة المفصلية لمصعب حسن يوسف، من ابن المؤسس والقيادي في حركة حماس إلى عميل في الشاباك الإسرائيلي، على الرغم من عدم التيقن انه مؤلف تلك الكلمات، أم كان مرغما عليها في كتابه(ابن حماس)، ليظهر من خلاله أمام العالم رسالة في الإنسانية تقطر دما فلسطينيا، ولكننا لسنا بصدد البحث في قضية مصعب برمتها، فتداولها في وسائل الإعلام بكثرة جعل اللبس فيها أكثر من مجرد اعترافات لعميل فخور بمنطقيته باسم السلام.
في عموم المقصد من ذكر تجربة مصعب كعميل إسرائيلي، يسعنا القول ان العمالة ليست صفة مجردة من العلوم المختلفة تجلب لصاحبها العار والضغينة مع من حوله فقط بل يجب معرفة الأسباب والنتائج وما بعد النتائج، بعيدا عن أي تعاطف أو تبرير للخائن والعميل، فنحن متفقين على فظاعة الصفة ومغيبين عن النقاط المستغَلة في البنية المجتمعية ككل، وصولا إلى أشخاص عملاء قد تصل بهم الوقاحة إلى الصعود على شاشات عربية وقول:انا عميل إسرائيلي! كحالة مصعب يوسف.
ان تاريخ العمالة برمته يبدو قليلا بقلة الكشف عنهم واعترافاتهم، ويقول بعض المؤرخين أن الجاسوسية هي أول مهنة عرفتها البشرية، وفيما بعد أصبح لها جهازا للحفاظ على الاستقلال الوطني، ولعل هذه الغاية أوعزت إلى (تحتمس الثالث) فرعون مصر، فما زال التاريخ ينفض الغبار عن براميل الفراعنة التي وضعوا فيها جنودا بدل الطحين لفتح عكا بعد بسالتها في القتال، وتتبعت الأساليب بعد ذلك من أضخم معدات التجسس إلى كبسولة صغيرة يتم بلعها على الحدود لإخراجها في مصارف الجاسوسية لصالح العدو.
والاختراق الأمني لدولة ما عملية معقدة فكريا وتكنيكيا، تسبقها دراسة مكثفة للمجتمع المخترق والمهدد المباشر لها، فعملية تحويل قبرص من اكبر قاعدة دفاعية عن الدولة الإسلامية إلى (وكر الجواسيس) كما أسمتها قناة الجزيرة، لم تتم بليلة وضحاها، فإسرائيل مثلا خططت ووجدت أن الإضعاف الاقتصادي للفلسطينيين يجعل مواطنيها في قعر هرم ماسلو للحاجات الإنسانية الأساسية، فيتسنى للعدو تقديم العروض لتجنيد العملاء لصالحها، وستجد الكثير من الأفواه الجائعة لقبول أولى خطوات التجسس وصولا إلى مستنقعات وحلة يصعب التخلص منها، وكامتداد للعامل الاقتصادي هناك ما اصطلح على تسميته (عقدة النقص)، أي انشغال تفكير المهزوم للحاق بالآخر، وقد يكون من غير الالتفات لهويته، بالتالي الوصول للقوي بنسف الهوية الذاتية، فاعتراف احد العملاء الفلسطينيين وقوله "اكبر خطأ ارتكبه الفلسطينيين عدم مصافحتهم مع القوي (إسرائيل) ليصبحوا أقوياء مثلهم" علما بان العقدة ليست بكلمة (يتصافحوا) بل (بمثلهم) كان مثالا واضحا على عقدة النقص المستغَلة من العدو.
وكون المجتمع في حالة دائمة مع الصراع الخارجي كما الحالة الفلسطينية، تبقى ساعة الحرب هي ساعات عمل العميل بكثافة، فقد وصل عدد العملاء في الانتفاضة الأولى إلي ما يقارب 100 ألف عميل فلسطيني حسبما ذكر التلفزيون الإسرائيلي المستقل، إما في حالة الصراع الداخلي قديما وبشكل محدث، عندما كان المرشح لرئاسة عشيرة يقول"أريد الرئاسة بأي ثمن، استغل العدو حاجتهم لحب السيادة والسيطرة ليكون الثمن هو الخيانة من اجل وصلوهم لرئاسة قبيلة أو عشيرة أو قطعة ارض أو حتى لجام حمار دنس، علما انه ذكر الكثير من أسماء العائلات في كتب التاريخ بخجل شديد وإخفاء اشد.
وهنا يجب الانتباه إلى أننا لا نعطي مبررات للعمالة، بقدر ما نفكك النسج المتين للكلمة، بعيدا عن أي دعوة للتعاطف الغير مقبول للعميل.
وكثيرة هي الدوافع بكثرة مستغليها من الدول المهيمنة، ويبقى السؤال ماذا عن الطرف المستغَل، ولماذا لا تسرف الدول العربية في جهاز مخابراتها جهدا وفكرا على العدو بقدر ما تتجسس على ذاتها؟، علما بان عمليات اغتيال قادتها بايدي عملاء، فلو تم إحياء عظام فتحي الشقاقي وابو إياد ويحيى عياش لقتلوا ثانية بنفس الطريقة والأشخاص وبنفس الصمت الذي قتل فيه ياسر عرفات.