بمشاعر مليئة من الألم والوجع المغمس بالاشتياق، استقبلت الأسيرة النائب خالدة جرار خبر وفاة ابنتها سهى "31 عامًا" ومنعها الاحتلال الإسرائيلي من إلقاء نظرة الوداع على جثمانها.
ترَكَ عدمُ توديع "جرار" لابنتها غصةً يبدو أنها ستلاحقها إلى آخر حياتها؛ فقيود السجن والسجان منعتها من أن تحضن جثمانه، وتمنحها قبلة الاشتياق والحب بعد وقت طويل من الغياب.
لم تكن سهى الوحيدة التي تركت غصة في قلب المناضلة "جرار"؛ فقد فقدت والدها وهي داخل السجن ولم تستطع أن تراه وتودعه؛ فأدمى ذلك قلبها ووسع من جرحها الذي جسد هذه القصص بالدماء على جدران السجن.
الوداع الأخير
ولم تنجح كل المحاولات التي بذلتها مؤسسات حقوقية من أجل أن تتمكن "جرار" من رؤية ابنتها وهي تستعد لترك الحياة الدنيا دون رجعة إلا في العالم الأزلي؛ لأن الاحتلال الإسرائيلي رفض كل المقترحات للإفراج عن الأسيرة وبينها مقترح لنقل جثمانها إلى معتقل عوفر لتوديعها دون الإفراج عنها.
رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين، قدري أبو بكر، يؤكد لـ "وكالة سند للأنباء"، أن الاحتلال يعبَّر عن وجهه الحقيقي الذي لا علاقة له بالإنسانية والأخلاق.
ويشير إلى أن القرار الإسرائيلي بالرفض متوقعًا؛ فهذه طبيعة الاحتلال الإسرائيلي في التعامل بمنهجية بعدم السماح للأسرى بوداع أحبة فقدوهم وهم داخل المعتقلات.
ويرى رئيس نادي الأسير الفلسطيني قدورة فارس أن قرار الاحتلال برفض إطلاق سراح الأسرة جرار يعبُّر عن مستوى الانحطاط الإنساني الذي يمارس ضد الفلسطينيين وبشكل متعمد.
يقول "فارس": حرمان الاحتلال للأسرى من حقّهم الإنساني بوداع أهاليهم، هو نهج ثابت لم تسمح به من قبل".
يضيف أيضًا: "غالبية من تعرّضوا للاعتقال على مدار سنوات النّضال الفلسطيني التحرّري فقدوا فرداً، أو أكثر من عائلاتهم، ولم يتمكّنوا من المشاركة في مراسم العزاء".
ويشدد على ذلك يدلُّ على أن إسرائيل مسكونة بالخوف والقلق، وأنّها لا ترحل إلا بالمقاومة، حسبما ما يقول لمراسل "وكالة سند للأنباء".
حادثة وفاة ابنة أسيرة أو أسير داخل السجون ليست الوحيدة على الإطلاق في فلسطين؛ فهناك حوادث مشابهة حصلت قبل ذلك؛ فهذه الحادثة أعادت سجل الذكريات مرة أخرى وهو ما دفع جزءًا من الأسرى إلى زيارة قبور أبنائهم بعد تشييع ابنة الأسيرة "جرار".
خبر الوفاة بعد 10 أيام
الأسير المحرر علاء زعاقيق من الخليل وقف قرب قبر والده ودموعه تملأ وجنيته يستذكر خبر وفاة والده بعد عشرة أيام؛ حيث كان يقبع في سجن عسقلان عام 2012م، ولم يعرف بخبر وفاته إلا بعد نقله لمعتقل "إيشل" حينها.
يقول: "الخبر وقع كالصاعقة يوصف صعب لم أستطيع أن أخفي كل تعابير الحزن والأسى، ووقفت عاجزًا أمام هذا الشعور، تخيل أن تفقد والدك وأنت غير قادر على رؤيته".
ويشير إلى أنه شاهد قصصًا مماثلة لأسرى محكومُ عليهم بالمؤبدات والمحكوميات العالية؛ حيث يتجرع الأسرى مرارة الفقدان والألم حينما يعرفون أن أولادهم ماتوا ولا يستطيعون رؤيتهم.
يحرص الأسير المكلوم بفراق حبيبه ألا يرى سجانه دموعه لكن الأسير إنسان يبكي ويتجرع الحزن لكن لا ينكسر ويصبر ويعتبر أن ما يحل به من نوائب جزءُ من مشوار المواجهة مع الاحتلال.
والد الشهيد أنس حماد من رام الله حُرم من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على نجله الذي استشهد عام 2015م، حيث اعتقل والده بعد أيام من استشهاده.
يروي "حماد" لـ "وكالة سند للأنباء" لحظة فراق نجله الشهيد وعدم قدرته على احتضانه وإعلان الحداد لأيام متتالية كما جرت عليه العادة في طقوس الفلسطينيين عند وداع أحبتهم.
تلاعب بالمشاعر
يقول "حماد" إن شعور الحرمان من توديع الابن والصلاة على جثمانه والمشاركة في جنازته لا يمكن وصفه بكل معاني الحسرة والألم؛ فساعات طويلة مرت عليه وهو ينتظر الإفراج عليه.
يشير إلى أن الاحتلال تلاعب بمشاعره أثناء تنفيذ الإفراج عنه؛ حيث أتاه قرار بمنعه فجأة، وهو ما زاد من ألمه وبدد من مشاعره وأحاسيسه، وهز أركانه؛ رغم أنه حاول أن يظهر متماسكًا حرصًا على صورة الفلسطيني الذي يتحدى ولا يستجدي سجانه.
لحظة فراق الأحبة مؤلمة للغاية، ربما لا يختلف عليه اثنان، لكن في فلسطين القصة لها وقع خاص؛ فالأسير الذي يتجرع بحسرة تلك الأيام التي يقضيها داخل السجن يزدادُّ ألمًا حينما يفقد فِلْذة كبده، ليس أمامه إلا الصبر وكتابة حروف هذه اللحظة على جدران السجن.
سند