محمود كريشان
لعل وسط المدينة لايزال يحتفظ بأسراره، والتي نحاول اعادة اكتشاف المزيد من المعالم التي رافقت العاصمة منذ ان كانت في أول نوارها فوق شجرة الوطن.
نمضي بخطى حالمة من شارع الأمير محمد، الذي استعاد نشاطه وحراكه مع انتشار محال الكوفي شوب والمطاعم المتنوعة، ونقف نتأمل مبنى تراثيا جميلا «بريد عمان المركزي»، ونمضي نحو شارع بسمان، وتحديدا بدايته، حيث نرصد محلا صغيرا بأبواب خشبية.. المكان مكتظ بالقصاصات والخيوط، مكتب خشبي متهالك، عدة مقاعد جلدية طاعنة في القدم، مسجل قديم، ينطلق منه مع غروب عمان، صوت أم كلثوم في رائعة: وعايزنا نرجع زي زمان.. قول للزمان ارجع يا زمان..!
«الزمن تغير والأحوال تبدلت».. هكذا يقول خياط الزمن الجميل محمود الجمل، الذي يجلس منكبا على قطعة قماش يعاملها برفق، يقلبها يسارا ويمينا، يفردها أسفل ماكينة الخياطة، يطوي اجزاء منها..
الخياط الجمل.. أشهر من نار على علم، منذ ان كان شارع بسمان يتلمس البدايات، وبقيت سمته بهدوئه وتشابه مبانيه القديمة.. ورغم كل شيء، ومع تغير الأحوال، وتقلبات الأيام، فإن خياط الزمن الجميل، لا يستغني عن مهنته أو محله، مؤكدا انه سيظل متمسكا بعمله حتى آخر يوم في حياته. «أبى زهدي» الذي كرس جهده وحياته في الحياكة، وقد تعلم فنون الدرز وحكايات الموضة وأسرار المهنة، منذ السبعينيات من القرن الماضي، على يد مهندس الخياطة في زمن الأناقة المرحوم خليل عبدالله، وكان محله فوق محمص بسمان حاليا..
يسترسل «ابوزهدي» ويتنهد بشوق لما مضى من سنوات جميلة ويتذكر انه ايضا ذهب في العام 1983 الى هولندا واجتياز دورة متقدمة في الأزياء والموضة وفنون الخياطة، وقد اتقن التعايش مع التطور الذي شهده قطاع الألبسة، واصبحت له حكايات البنطلون «الشارلستون»، وتماشى مع تطورات طرأت على «العدة» منذ الإبرة والخيط وصولا الى ماكينة السنجر، وقس على ذلك..!
مثل أي تجارة أخرى.. تمر مخيطة الجمل بفترات صعود وهبوط، لكن الفترة الذهبية، كانت في الثمانينيات، عندما حصل الخياط الماهر محمود ابوزهدي، على عطاء الزي الموحد لموظفي البنك العربي وبنك الأردن، لكن حقبة التسعينيات، شهدت أهم التحولات في تاريخ المهنة، حين غزت الملابس الجاهزة الأسواق، وتغيرت خريطة الملابس، وتبدلت كل المعادلات..! نواصل نبش ذاكرة خياط وجهاء عمان القديمة «الجمل»، الذي خرجت من بين يديه الأزياء الأنيقة لرئيس الوزراء الأسبق معروف باشا البخيت، وقائد الجيش الأسبق مشعل باشا الزبن، ومؤسس المخابرات الباشا محمد رسول كيلاني، وتوفيق باشا كريشان، وطلال باشا الكوفحي، والباشاوات بسام عبدالحافظ المجالي، عدوان العدوان، محمد عزيز العدوان، عبدالستار الخرابشة، ابراهيم الترشيحي، احمد عبدربه العساف «ابونضال»، مصطفى العضايلة، والكابتن محمد الخشمان، والعين محمد الشوابكة، والعين د. عودة قواس، واحمد عدينات وكوكبة من رجال الدولة والسفراء والضباط والوجهاء.
ولا يزال ابوزهدي يتشبث بذات المقص الذي عايش جميع انواع الأقمشة التي ينتقيها الزبائن على اختلاف مستوياتهم، في دكانه الصغير الذي استقبل فيه الجمل التقلبات السياسية والأحداث في عمان التي قال عنها: كبيرة بأهلها..