وتم الترميم تحت إشراف المخرج الأميركي المخضرم فرانسيس فورد كوبولا، الذي فاجأ العالم بهذه التحفة الخالدة، التي اعتبرت على نطاق واسع، واحدة من أعظم الأفلام في كل العصور، "كعمل ملحمي تمثلت عبقريته في وضوحه وقوته الوحشية، وهو يرسم صورة مميزة لمجرمي المافيا، باعتبارهم سلالة مختلة وقادرة، من خلال دراما نفسية عائلية، تقترن فيها أعمال العنف الدموية المرعبة، بطقوس الالتزام والاحترام الأُسريين"، وفقا للناقد بيتر برادشو.
كوبولا الحائز على 5 جوائز أوسكار، عبّر لموقع "فارايتي" (Variety)، عن سروره للاحتفال بالعراب، "مع المعجبين الذين أحبوه لعقود، والأجيال التي لا تزال تشاهده حتى اليوم، وأولئك الذين سيكتشفونه يوما ما".
عرضت النسخة المطورة من الفيلم، في 24 فبراير/شباط الجاري، لفترة محدودة حصريا على "سينما دولبي" (Dolby Cinema)، ومسارح "إيه إم سي" (AMC)، بالولايات المتحدة، ومدن أخرى حول العالم، قبل أن تعود للعرض العام، في النصف الثاني من شهر مارس/آذار.
دون "فيتو" الرهيب مستوحى من الأم "ماريا"
أبدع الروائي وكاتب السيناريو الإيطالي الأميركي، ماريو بوزو (1920 – 1999)، التصوير الدقيق للجريمة المنظمة في رواية "العرّاب" عام 1969، عندما كان يبلغ من العمر 45 عاما، وكان مديونا بـ20 ألف دولار. رغم أنه لم يصادف رجل عصابات في حياته، ففي كتابه "أوراق العَرّاب واعترافات أخرى"، قال: "أشعر بالخجل من الاعتراف بأنني كتبت العراب بالكامل من خلال البحث، فلم أقابل قط رجل عصابات حقيقيا"؛ لكن روايته بِيع منها أكثر من 21 مليون نسخة حول العالم؛ وتحولت إلى ميلودراما المافيا التي أهدت بوزو جائزتي أوسكار.
المفارقة أن شخصية دون "فيتو كورليوني" القوية، التي جسدها النجم مارلون براندو، استوحاها بوزو من شخصية والدته "ماريا"، المولودة في نابولي. وقال لصحيفة "نيويورك تايمز" (nytimes)، "كلما تحدث براندو، كأني ما أزال أسمع صوت والدتي ".
كما كشف أن المشهد الذي تخلص فيه "فيتو" من المسدس في مداخن الأسطح، مستوحى أيضا من موقف حقيقي حدث مع والدته، "إذ ألقى أحدهم بندقيته في فوهة مدخنتنا، وأخذتها أمي وخبأتها له، حتى عاد واستعادها، وقال لأمي: هل ترغبين في سجادة؟ فأرسلتْ معه أخي ليحضرها، دون أن تعرف أنها مسروقة".
ثعبان الكوبرا
تسبب فيلم العَرّاب في شهرة المصور السينمائي غوردون ويليس، باعتباره "أمير الظلام"، بعد أن تعمد إضاءة معظم المَشاهد بشكل خافت، ليعكس الأحداث المظلمة التي تخيّم على السيناريو.
تلك الإضاءة الخافتة التي جعلت القشعريرة المُخيفة تبدأ في السريان من مجرد المشهد الافتتاحي، ونحن نرى متعهد دفن الموتى يطالب الدون العجوز فيتو كورليوني، بالانتقام من شابين اغتصبا ابنته.
وذلك أثناء حفل زفاف عائلي ضخم للابنة كوني (تاليا شاير)، يصطحب فيه كوبولا فريقه الضخم على خشبة المسرح بمهارة شديدة، ليُدخلنا في الحال إلى عالم العَرّاب.
العرّاب الذي يجلس في مكتبه المظلم، وقد أرخى عينيه كأنه ثعبان كوبرا، يتحسس قطة قفزت في حِجره بالصدفة البحتة؛ يبدو عريض الفكين ككلب البولدوغ. يستمع بهدوء فخم إلى المعلومات الغامضة في أذنه، وقد أشهر إصبعه وكأنه الكاردينال أو البابا نفسه، "في مشهد رائع يتميز بالحيوية والتفاصيل والاهتمام الدرامي"، كما يقول برادشو.
تحدي الإفلاس والرفض
فالمؤلف بوزو كان مفلسا، وشركة باراماونت المنتجة كانت في وضع مالي سيئ جعل العديد من المخرجين الكبار يرفضون الفيلم، مما اضطرها للمغامرة بمخرج شاب مثل كوبولا (31 عاما آنذاك)، كان مفلسا هو الآخر، ومع ذلك رفض العرض، بعد أن اكتفى بقراءة جزء من الرواية ولم يعجبه، فاعتبرها "قطعة قمامة"، لكنه تحت وطأة الإفلاس عاد ووافق في أواخر عام 1970.
حتى مارلون براندو، الذي كان يُعتبر أحد أفضل الممثلين في العالم، كان مفلسا هو الآخر، لأكثر من 10 سنوات، واكتسب سمعة بكونه أصعب ممثل في هوليود حتى أن ستانلي جافي، المدير التنفيذي لشركة باراماونت، تحدى كوبولا قائلا، "لن يقوم مارلون براندو بهذا الدور".
إلا أن كوبولا لم يستسلم واستطاع فرض اختياره بعد أن استخدم تقنيات مكياج دقيقة حولت براندو البالغ من العمر 47 عاما وقتها، إلى رجل مافيا مخضرم؛ كحشو خديه بمناديل ورقية، وإرخائهما قليلا، وتلطيخ شعره بملمع أحذية، وجعل التعب باديا على وجهه؛ وقد فاز براندو بالأوسكار عن هذا الدور.
نجومية الإصرار
وبطل الفيلم، آل باتشينو، البالغ من العمر 31 عاما آنذاك، اعتبرته الشركة المنتجة نكرة، كما رأوه قصيرا للغاية، ولأنه ابنٌ لمهاجرَين من صقلية، فهو يبدو "إيطاليا أكثر من اللازم".
وقال لصحيفة "واشنطن بوست" (Washingtonpost)، "إنهم حاولوا إطلاق النار عليه 3 مرات"، ففي كل مرة كان يحضر لإجراء اختبار أداء، يصرخ المنتجون في وجهه قائلين "إنه قزم".
لكن كوبولا لم يتراجع أيضا، واستغل إحباط باتشينو الذي جعله يبدو هادئا، لكنه يخبئ غضبه بداخله، ليرى في هذه الحدة المزاجية انعكاسا دقيقا لحالته الذهنية، يجعله مناسبا للدور بشكل ساحر ومذهل.
أما تاليا شاير، أو "كوني" شقيقة مايكل كورليوني الحديدية، فكانت في الحقيقة شقيقة المخرج كوبولا، ولم تكن لديها خبرة في التمثيل، حتى أنها أسقطت الكاميرا في أول وقوف أمامها. لكن كوبولا رغب في أن تلعب هذا الدور ليبدو أكثر "عائلية"، وقد نجحت بالفعل ورُشحت لجائزة أفضل ممثلة مساعدة.
كذلك، روبرت دوفال (توم هاغن) الذي ظهر بأداء لامع وغير معتاد، كمستشار فيتو الهادئ الذي يشرف على أكثر أعمال العنف شيطانية، كوضع رأس الحصان في سرير منتج هوليود النائم.
من المفارقات أيضا، أن روبرت دي نيرو، الذي لم يفز في الجزء الأول بلعب دور صغير، كسائق وحارس دون كورليوني الشخصي "باولي غاتو" الذي يخونه. اختير في الجزء الثاني للعب دور فيتو كورليوني وهو شاب، واقتنص به أول جائزة أوسكار لأفضل ممثل مساعد، وأصبح نجما عالميا.
المافيا الحقيقية كانت حاضرة
كان على كوبولا أيضا أن يتعامل مع المافيا الحقيقية التي كانت في أوج قوتها في أوائل السبعينيات، عندما وضعت "العرّاب" نصب عينيها، وحاولت إيقافه؛ لولا أن ألبرت رودي، أحد مديري الشركة المنتجة، التقى جو كولومبو، رئيس إحدى "العائلات الخمس" التي تتشكل منها عصابة نيويورك، في مكتبه؛ وطلب منه إلقاء نظرة على السيناريو. واتفقا على إزالة أي إشارة إلى "المافيا" من النص.
أسطورة حطمت كل الأرقام القياسية
اعتبر "العَرّاب" من أكثر الأفلام المحبوبة في تاريخ هوليود، بعد أن أصبح أيقونة تصطف الجماهير في طوابير طويلة منذ الثامنة صباحا لمشاهدته، وحطم كل الأرقام القياسية في شباك التذاكر، حيث كان يحقق أرباحا أكثر من مليون دولار في اليوم.
احتل العَرّاب المرتبة الثانية في قائمة الأفلام الأعلى تقييما على موقع "آي إم دي بي" (IMDb)، وحصد 3 جوائز أوسكار، و31 فوزا آخر، و30 ترشيحا.