رام الله – خلال عملها الفني الذي شاركت به في معرض "وما زلنا نخطو حولها" استحضرت شذى الصفدي مخيلة الطفلة ذات الست سنوات فيها، عندما خرجت من منزلها في مجدل شمس بالجولان المحتل ذات يوم لتصل إلى والدتها التي تُعالج في القدس، هذه المدينة التي كانت بالنسبة لها هي القبة الذهبية التي تراها على شاشة التلفاز.
مشت لساعات هي وابن خالتها وكلها يقين أنها ستصل إليها فهي ترى القبة من سطح منزلها خلف أشجار التفاح، وحتى بعد اعتراضها من قبل أحد "الكبار" وإدراكها أن القبة التي تراها هي قبة مزار الشيخ اليعفوري وليست القدس، بقيت القدس بمخيلتها تلك القبة الذهبية التي توارت خلف أشجار التفاح، وهو ما عبرت عنه في لوحتها الأولى في عملها الذي أطلقت عليه اسم "المشي وثوقا بالحواس".
تقول الصفدي للجزيرة نت "عندما قرأت إعلان المعرض استعدت تفاصيل ذلك اليوم، كان بداية تشكيل علاقتي مع المدينة التي أراها الآن امتداد للجولان بواقعها تحت الاحتلال، فقررت تقديم صورة القدس التي احتفظت بها منذ ذلك اليوم".
ولما كانت القدس بعيدة عن الصفدي بالقدر الذي لم تستطع فيه أن تصلها مشيا، بقيت تستحضرها لسنوات في ذهنها محمولة على سحابة فوق جبل الشيخ القريب من قريتها، فكانت لوحتها الثانية، وقالت "عادت والدتي من القدس بعد أيام، ولكن التفكير بالقدس البعيدة استحوذ على تفكيري لفترة طويلة".
وفي اللوحة الثالثة، والتي جمعت فيها بين التصوير المتحرك بالصورة والفيديو والصوت، استعرضت الصفدي لحظة الحقيقة الأولى مع المدينة عندما زارتها لأول مرة بعمر 27 عاما، وكيف ألقت كل تخيلاتها على تفاصيل المدينة، فكانت مزيجا من صور باب العامود حمامة تقف على أسوار الباب وفي الخلفية صوت الحمامة، وهي نفس نوع الحمام الذي تربيه عائلتها في منزلها في الجولان وتسمع صوته كلما هاتفت والدتها من بعيد.
تعلق الصفدي "عندما كنت أهاتف والدتي خلال دراستي في الخارج كان صوت الحمام مرافقا لها وهو ما يمنحني الشعور بالأمان، وهو ما حاولت منحه للمدينة المحاصرة، وكأن واقع ما رأيته لأول مرة في المدينة بعد هذه السنوات لم يغير تصوراتي عنها".
البشر والحجر
علاقة الصفدي الخاصة مع المدينة المحتلة والتي عكستها في اللوحات الثلاث، هو موضوع المعرض الذي افتتح في مركز خليل السكاكيني في رام الله (التاسع من مارس/آذار الجاري) ويستمر أسبوعا، ويناقش العلاقات والروايات الشخصية والجمعية لـ11 فنانا شاركوا بالمعرض، بمدينة القدس، كما تقول روان شرف قيّمة المعرض.
المعرض الذي افتتح في مدينة القدس قبلا بتنظيم من مركز "حوش الفن الفلسطيني"، يعتبر من الأعمال الفنية والثقافية النادرة التي تنطلق من مدينة القدس، بسبب عوامل الاحتلال والتضييق على المؤسسات الثقافية وأيضا حالة التهميش للمدينة.
وانطلاقه من القدس -كما توضح شرف للجزيرة نت- هو أحد مميزات هذا المعرض وسبب أهميته، فهو تأكيد على أن هذه المدينة قادرة إلى إعادة تنظيم نفسها من جديد والعودة مركزا لإنتاج الفن والثقافة الفلسطينية، كما أعادت هبّة مايو/أيار 2021 القدس مركزا للقضية.
وحرص القائمون على المعرض على اختيار أعمال تتجاوز صورة المدينة الأيقونة، وإنما تلك التي تلامس حياة البشر وعلاقتهم مع الأماكن فيها.
ومن الأعمال المعروضة ما كان تعبيرا مباشرا عن المدينة ومركزها، كما هو حال الصفدي التي عبرت عن علاقتها بقبة الصخرة وارتباطها بذهنها بذكريات طفولتها.
بينما قدم عمل الفنانَين ريم ومجد المصري شكلا آخر من هذه العلاقة من خلال علاقة والدهما مع المدينة والتي نقلت لهما برسائل كان يرسلها لهما من سجنه، وقد حضر في المعرض الوالد وأبناؤه وأحفاده أيضا، ويستذكر الوالد هذه الرسائل التي من خلالها نقل لأبنائه من ذاكرته الشفوية، وكونت علاقتهم مع المدينة.
وكانت للفنان الغزيّ محمد الحواجري صورة علاقة أخرى مع المدينة والتي جسدها بـ3 لوحات حملت اسم "رحلة مع المُجنّح"، وهذه العلاقة بالكامل متخيلة، وهو المقيم في قطاع غزة الذي تفرض إسرائيل حصارا عليه منذ سنوات طويلة.
في هذا العمل 3 لوحات احتوت على كائنات طائرة كان يراها في خياله وهو صغير، استدعاها لتكون وسيلته في الانتقال من سجنه الكبير في غزة إلى القدس المحاصرة أيضا، ويكسر من خلالها كل قيود الاحتلال.
القدس خارج حدود الاستعمار
ووفق شرف فإن بعض هذه الأعمال ذهبت أبعد من العلاقات الخاصة والمباشرة للفنانين مع المدينة، فكان أحد الأعمال للفنانة صابرين الحاج أحمد، وهي من مدينة جنين شمال الضفة الغربية والتي وجدت خلال تجوال في مدينة صوبا المهجرة غربي القدس (احتلت وهجر كامل سكانها في العام 1948) زنبقة أوركيدا "سحلب القدس المتراخي".
ومن هنا استحضرت صابرين فكرة العمل الذي شاركت به بالمعرض، من خلال عمل تركيبي تناول انطباعاتها وتصوراتها الشخصية عندما رأت أول "سحلبة برية" رأتها في جبال القدس وتحديدا في قرية صوبا المهجرة.
فكان عملها الفني الذي كسرت فيه حدود القدس الاحتلالية، وأعادت تركيب الغطاء النباتي للقرية، التي أصبحت النباتات بها نادرة بسبب السياسات الاستعمارية التي تهيمن على الأرض والطبيعية.