فاتن الحميدي/ بغداد/ بروكسل - وكالة سند للأنباء
على جدران المدينة المكلومة التي شهدت انكسارات متتالية على مدار سنوات، تنفض الرسامة العراقية وجدان الماجد (49 عاما) غبار الحروب ورائحة الموت، وتخط بريشتها أملاً قبل أن يكون لوناً يُنثر على جدار رمادي تهتكت حجارته، وحاوطته أسلاك الكهرباء السوداء.
"أصلنا بهجة وفن، وتاريخنا بهجة وفن".. كلمات تهمس بها الفنانة وهي تتنفس الصعداء بعد انتهاء لوحتها، فتنسى تعب ومشقة الرسم على جدران ضخمة بعد أن ترى الحياة قد عادت لحائط ما في المدينة.
وترسم "الماجد" وهي مدرسة في كلية الفنون الجميلة في بغداد، لوحات جدارية بمساعدة عامرة بحب البلاد من صديقها الفنان المغترب حمدان سراي (47 عاماً)، فيعيدون البهجة، ويكسرون الكثير من القيود في مدينة تخنقها الأبنية الأسمنتية العالية، ويضفون ألوان الفرح في قلب العاصمة العراقية بغداد.
WhatsApp Image 2022-05-12 at 12.20.33 PM (2).jpeg
مبادرة لإضفاء الجمال
وتجسد الجداريات شخصيات معروفة في البلاد وخارجها، لأيقونات عراقية وعالمية بارزة وشخصيات رائدة في عوالم الهندسة المعمارية والشعر والفكر والرسم.
وتأتي ضمن مبادرة أطلقها أمين بغداد، علاء معن قبل 9 أشهر؛ لـ "إضفاء الجمال على المدينة ونقل الفن إلى الشوارع للتخلص من الألوان الرمادية التي تخيم عليها".
وفي حديث ماتع أجرته "وكالة سند للأنباء" مع الفنانة "الماجد" توضح فيه أنها رسمت 16 جدارية إلى وقت إعداد هذا التقرير، منها خمس لوحات أتمتها بمساعدة ورسم الفنان "سراي".
وتستخدم "الماجد" في لوحاتها الجدارية ألوان الـ"أكريلك" التي قد تتحمل لخمس سنوات أو أكثر بقليل على الجدار، وذلك لعدم توفر ألوان الشارع المناسبة في العراق.
بينما تستغرق "ضيفة سند" 4 إلى 5 أيام لا أكثر؛ للرسم على الجدار، بمعدل 4 إلى 6 أو 8 ساعات عمل، حسب المقدرة، مضيفةً "أحب أن أعمل لفترات طويلة، فهذا الذي يُمكن تسميته التعب المستلذ".
جدران مهملة
وتتمثل الفكرة حول الجدران المهملة والعمارات القديمة، فبدأ المقترح أولاً برسم 4 جداريات قرب كلية الفنون في بغداد، اثنتان منها لفنانين وأساتذة توفوا في وقت قريب، بحسب ما ذكرت "الماجد".
نجاح الجداريات بالقرب من كلية الفنون، شكّل ذلك دافعًا لاستمر المشروع حيث أكملت ضيفتنا رسم السلسلة لباقي الشخصيات.
وفي تفاصيل الحديث، تنقل لنا "الماجد" حبها لإحدى الجداريات المرسومة في مدخل سوق "الصدرية" التراثي الشاهد على ماضي بغداد وذاكرتها، فكان الحديث عن عمارتَين في ساحة "الوثبة" على مدخل السوق، رُسم عليهما لوحة للرسام العراقي جواد سليم، والجدار الثاني لوحة للفنان حافظ الدروبي.
ولاقت ضيفتنا صعوبات متعددة في هذه المنطقة، كونها منطقة "ذكورية" على حد تعبيرها، وتحتوي على سوق مزدحم، إضافةً لارتفاع المباني الذي يصل إلى 16 متراً.
بدأت "الماجد" رسم اللوحتين في شهر رمضان الماضي، بدون تخطيط للجدار، مع بقائها وحدها في الرافعة ولساعات متأخرة من الليل؛ لكنها تؤكد أن هذه العمارات كانت الأهم لديها، وتضم تحديات كبيرة وشهرة أكبر من الأخريات، مردفةً: "أحببت حب الناس للفن الذي أقدمه، وهذا دفعني للمواصلة بشغف وامتنان".
فن للجميع
"شاركني في 5 جداريات فنان عراقي مغترب يعيش في بلجيكا هو حمدان سراي، وكان يتمنى دائماً أن تكون له بصمة على جدار في العراق"، وبحديثها هذا، هاتفت "وكالة سند للأنباء" الفنان "سراي" الذي بدأ الرسم مبكراً، واستمر فيه دون انقطاع منذ عام 1995.
يقول "سراي": "إن الرغبة في صناعة الفن في شوارع بغداد كانت حاضرة دائماً؛ للوصول إلى شرائح المجتمع كافة، وعدم اقتصار وجوده في قاعات العرض التي يرتادها النخبة فقط"، موضحًا أن العمل الفني في الفضاء العام يخضع لشروط واعتبارات اجتماعية وأخلاقية وسياسية، قد يتحرر منها العمل الفني المعروض في القاعات الخاصة.
وحول مشاركته مع الفنانة وجدان الماجد، يلفت أنه رسم 4 جداريات كبيرة في تقاطع "الكسرة" في العاصمة بغداد، منبهاً أن لديه جداريات قبلها في فرنسا واليونان.
"الرسم في الشارع يتطلب الكثير من المهارات"، عن ذلك يحكي "سراي": "التعامل مع الأحجام الكبيرة تلزمه مهارة فائقة، إضافة لكيفية تحضير السطوح والألوان حتى تحافظ على رونقها وبريقها في الظروف البيئة المختلفة، والتي غالباً ما تكون قاسية جداً".
وبنبرةٍ ممتنة ممزوجة بالشوق يختم ضيفنا حديثه: "أنا أحب العراق، ومتعطش لأترك بصمةً فيها بمجالي الذي أهوى، العراق يستحق أن يرى الجمال، ويزهو بالفن".
فن غير مألوف
الرسم في الشارع مشهد لم يألفه العراقيون الذين يمرون بالقرب من الرسامة "الماجد" ويتأملون بذهول المشهد غير الاعتيادي الماثل أمامهم.
ففي صندوق وزعت "وجدان" الألوان، ووضعت الريشات المتنوعة في المياه، تبطىء السيارات والمارة والدراجات النارية والتكاتك لدى مرورهم قربها، يتأملون بذهول وحشرية المشهد غير الاعتيادي الماثل أمامهم.
تبيِّن "ضيفتنا" أنه رغم المعيقات للرسم المباشر في وسط الشارع وردود أفعال الناس المتفاوتة، كَون ما يُرسم كان محط تساؤل الجميع الذين اعتادوا على رسم الطبيعة، إلا أن الهدف الأول من الرسم قد تحقق وهو تحفيز وعي المواطن العراقي المعرفي والفني.
وبرسومها الأخيرة تشير "الماجد" إلى أن الردود كانت أكثر إيجابية، وبدأ الناس يشعرون بالجمال، ما حفز الكثير من الفنانين أن تكون لهم بصمة في الشارع، بعد أن كانت اللوحات محصورة داخل المعارض.
وتشدد على بعض المهارات المتعلقة في كيفية التعامل مع الناس، معتبرةً الرسم في الشارع عرض يكون فيه المتلقي حاضرًا منذ بداية العمل وحتى نهايته، فهو مشارك فاعل بالرأي والتشجيع أو حتى الاستهجان والرفض، واكتمال اللوحة بإنجاز مذهل يزيل كل المعيقات.