تقرير : شذى "أحمد رأفت" غضية
ابتسامته شقت وجهه المليء بأحاديث من الألم المدفون، منذ ذاك الماضي الذي يحاصره الى الآن، أمل سطرته حروفه في عبارة " الحمدلله " بعد كل قصة اندرج في تفاصيلها الألم والحزن، يوم في كفار يونا، والثاني في الرملة، و آخر في نفحا، ثم جلبوع، و سلسلة مطولة من اسماء القهر التي خلقت منه مجاهدا حرّا يتشرف به التاريخ ويتحدث عنه في صفحات النضال.
ابو درويش الأسطة، 54 عاما من مدينة نابلس، كان والده من بين الاف جموع المهاجرين من يافا-حي العجمة خلال نكبة عام 1948 واستقر في مخيم عسكر وعاش فيه ما يقارب ال30 عاما قبل انتقاله الى المساكن الشعبية حيث هو الان، و"درويش" هو اسم ابنه الأكبر، والذي سماه تيمناً بأخيه الذي توفي في حادث سير مؤسف منذ فترة طويلة.
" انهيت مرحلة الثانوية العامة و اجتزتها بنجاح، ولكنني فضلّت العمل الحر على اكمال دراستي، فعملت سائقا في عمان لفترة قصيرة، ثم معاون سائق لأخي في عمان ايضا حيث كنت اذهب معه الى تركيا و الإمارات العربية و اليمن و العراق و العديد من الدول الاخرى، وبعد ذلك تزوجت وانجبت درويش و مندي و أنس و منار".
الاعتقال الأول :
يقول الأسطة " في عام 1988 تم ايقافي و اعتقالي 18 يوما نتيجة خروجي خلال منع التجول، عندما طلب مني صديق يعمل في "الحسبة " مرافقته لإحضار بضاعة من اجل اهل المدينة، حيث كانت الاحداث متوترة في نابلس على اثر استشهاد ما يقارب ال13 شابا" و يتابع " وفي عام 1989 كنت انا واخي "سامي" نقوم بإصلاح سيارتي العمومي التي تعطلت في شارع فيصل، فإذا بجيب عسكري يقوم بدفع سيارتي من الخلف، و احتد الحديث بيننا وبين العساكر وكانت النتيجة هي هجوم 7 من الجنود و ضربي ضربا مبرحا و دخولي المستشفى ".
القرار الأخير :
عدّل من جلسته، و رفع من قامته، وهنا بدت عيناه كسماء ماطرة تبرق فخرا و تلمع عزّة، سمّا بالله وشابك يديه وتمتم "كانت بشهر 4".
" في عام 1990، خلال المواجهات التي كانت تحدث في البلدة القديمة، كان الجنود يستغلون شاحنتي التي كنت انقل عليها الحجارة و الحديد للإحتماء بها من رشقات الحجارة ، ومع استمرارية قتل الاطفال بوحشية في تلك الفترة، امتلأتُ غيظا، ولم استطع تحمل كل هذا الذل الذي دبَّ في وطني، ومن هنا جاء قراري للقيام بعملية دهس الجنود ".
ومما يجب ذكره أن انتفاضة الحجارة كانت شكل من أشكال الاحتجاج العفوي الشعبي الفلسطيني على الوضع العام المزري بالمخيمات وعلى انتشار البطالة وإهانة الشعور القومي والقمع اليومي الذي تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، حيث بدأ في عام 1987 و توقفت نهائياً مع توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، و يعود سبب الشرارة الأولى للانتفاضة، قيام سائق شاحنة إسرائيلي بدهس مجموعة من العمّال الفلسطينيّين على حاجز إريز، الذي يفصل قطاع غزة عن بقية أراضي فلسطين منذ عام 1948.
يستكمل الأسطة " كان الجنود يمشون في شارع عسكر، ثلاثة منهم على الجهة اليمنى، و ثلاثة آخرين على الجهة اليسرى، كنت عائد بشاحنة نقل الحديد من اشدود، وقررت حينها القيام بالعملية" .
"الساعة ال10 والنصف صباحا، كان الجنود يتناولون فطورهم، توقفت في شاحنتي امام منزلي، وتهت في التفكير للحظة، ألقيت نظرتي الأخيرة عليه، حيث كنت اعلم ان قيامي بالعملية كفيل بهدم بيتي، أما زوجتي فتركتها في رعاية الله، فأمل العودة كان شبه معدوم، ولكني لم اتراجع عن قراري".
الشاحنة والسيف :
" كان معي اثنين من الشباب وكانوا على اتم الاستعداد للجهاد في سبيل الله، ذهبنا الى المسجد لاخذ سيوف كنا قد وضعناها فيه، صلينا ركعتين و توجهنا الى المكان المنشود، وعند وصولنا وجدنا الجنود ال6 مازالو مكانهم، لكن تفاجأنا بوقوف سيارة امامهم، واخفاء 3 عن ناظرينا، اضطررت لدهس 3 من الجنود فقط ومن بينهم ضابط عسكري اعلن استسلامه ورفع يديه عند رؤية الشاحنة تقترب مسرعة اليه، خرجت احشاء الضابط العسكري من قوة الحادث، والجنديين الاخرين فقد اُصيبا اصابات بالغة، وحينها قررنا الهرب، لكن الشاحنة لم تتحرك نهائيا بسبب تكوم الحديد خلفها الأمر الذي اضطرنا للهرب على الاقدام، أما الجنود ال3 الآخرين فقد ابتعدوا قليلا ظنا منهم انها عملية عبوات ناسفة، وعند تأكدهم من عدم صحة الامر، بدأوا بإطلاق الرصاص، وذهبت مسرعا اتجاه مقبرة عسكر، لكن رصاصهم الغادر اصابني اصابة مباشرة بالفخد، فارتميت و بدا وجهي متجه الى السماء، ومن شدة الألم لم استطع تحديد مكان الاصابة، فنطقت الشهادتين استعدادا للقاء الله سبحانه".
رحلة السجون الطويلة :
" وجدني صديق لي ملقى على الارض في المقبرة، ذهب بي الى مستشفى الاتحاد، وهناك علم الاسرائيليون بوجودي فقاموا بتطويق المستشفى بالكامل، ومن ثم أقلتّني سيارة الاسعاف الى " تل هشومير " لتلقي العلاج لمدة 12 يوما، وكان هناك أهالي الجنود الذين حاولت قتلهم حيث قاموا بمحاولات حثيثة للإعتداء علي و قذفي بالكلمات النابية".
" نُقلت بعد ذلك الى سجن نابلس المركزي ومكثت به قرابة ال4 سنوات، وأمضيت خلالها سنة ونصف دون القدرة على المشي، لكن عدت بعد ذلك الى صحتي تماما، و من هنا بدأت رحلتي مع السجون".
و بعد سجن نابلس تم نقل الأسطة الى سجن الجنيد لمدة سنتين حتى مجيء السلطة الفلسطينية، ثم الى سجن الخليل لمدة اسبوعين، ومن الخليل لسجن كفار يونا لمدة 6 اشهر، وخلال تلك الفترة قام اثنين من اصدقائه بالهرب الأمر الذي جعلهم ينتقلون الى سجن الرملة مدة 8 أشهر، و من الرملة الى عسقلان ومكث فيه 3 سنوات، و في عسقلان ايضا قام اثنين من رفقائه في الغرفة بالهرب لمدة يوم واحد قبل القاء القبض عليهم مرة اخرى، وفي تلك الفترة قاموا بنقل جميع من في الغرفة الى سجن السبع ثم الى سجن نفحا مدة 9 اشهر انتهاءً بسجن جلبوع الذي خرج منه في تاريخ 18-10-2004 وهكذا يكون الأسطة انهى رحلته المؤقتة في السجون بعد 15 عاما من التنقل.
" حفظت القرآن الكريم كاملا خلال فترة اعتقالي، وكان بمثابة انجاز كبير و منّة من الله سبحانه وتعالي عليّ، حيث كنت استغل وقتي في التفقه دينيا، أما الصبر فهو عنوان النصر الذي حملته على عاتقي، لأن الصبر على افعالهم الدنيئة انتصار ".
يعبّر الأسطة عن شعوره حين خرج من السجن و وجد والديه على قيد الحياة بقوله " حين تكون اسيرا، فأنت جسد بلا روح، عائلتك هي الروح البعيدة عنك، والتي لا تعلم عنها شيئا، فحين وجدت ابي و امي على قيد الحياة حمدت ربي كثيرا، رغم انني لم اعش مع والدي الا سنتين بعد خروجي من السجن لأنه فارق الحياة بعدها".
"وفي 29-12-2010 تم اعتقالي مرة اخرى على خلفية الإتصال مع جهات معادية، وهو مسؤول كبير في حركة حماس، كان قد زارني في منزلي، لكن معرفتي به شخصية وليست سياسية، وكان لدي كأسير بعض المستحقات المالية في سوريا و المقدرة ب10 الاف دولار فذهب ولدي مندي و ولدي درويش لإحضار هذه المستحقات لكن تم اعتقالهم ، ويبدو انهم خلال تبادلهم اطراف الحديث داخل السجن تم تسجيل انني من قمت بإرسالهم لإحضار المستحقات، فتم اعتقالي لمدة 8 أشهر، و خلال هذه الفترة توفيت والدتي وانا داخل السجن ".
أما الاعتقال الأخير للأسطة كان في 7-12-2011 لمدة 4 أشهر وكان اعتقالا اداريا دون تهمة واضحة .
بطلة في الظل :
هي أمرأة كانت تتسطر الكرامة على جبينها المرتفع، حملت و انجبت و ربّت و تحملت الصعاب على كافة اوجهه، كانت بطلة في عين أبو درويش الاسطة، ووصفها بتاج مرصّع بكل ايات النضال و الوفاء، هي أم درويش زوجة الأسطة، التي كانت متمسكة بزوجها و تؤيد وطنيته، أنجبت ابنها أنس بعد اعتقال الاسطة بشهر واحد، حيث تعبرّ أم درويش عن تجربتها بقولها " كانت ايام صعبة جدا من الناحية النفسية، خاصة في فترة الانتفاضة، حيث تربية الاطفال مسؤولية كبيرة و قاسية للغاية في حضرة غياب الأب و15 عاما مدة ليست بقليلة، كنت اذهب الى زوجي كلما سمحت لي الفرصة بزيارته، لكن انس كان غصة في قلبي، حيث انه ولد في 23-5-1990 أي بعد اعتقال والده بشهر واحد، ولم يكن يعرفه حتى سنته الثالثة، وفي وقت زيارة ابو درويش، كان يمتنع أنس عن التسليم و الاعتياد على والده".
ومن الجدير بالذكر انه ولدها مندي معقل و محكموم اداري الى الان.
مرفوض أمنياً :
" سأدخل عزيزا..وأخرج عزيزا " ، عبارة قالها أبو درويش الأسطة وهو يرفع اصبع التشهد الى السماء ايمانا واحتسابا ، حين اشار بأنه مرفوض أمنيا من دخول القدس هو وعائلته نتيجة نشاطه السياسي، لكن نظرته للأقصى مختلفة بقوله " لو صحلي اروح عالقدس ما بروح، لأنه بذلونا على قلنديا حتى لو كان الأجر للعبادة، وقفة الذل و التدافع بين الناس انا ما بقدرلها، سأذهب للصلاة في القدس حين تتحرر".!
" إن لم ندفع ضريبة العزة .. سنبقى نذوق ويلات الذل "، هي مقولة أبو دوريش الاسطة الشهيرة، هو رجل حرّ ولا يقبل الاستعباد، امتلأ قلبه حقدا، فأنفجر في اعدائه، قصة بطولته ستبقى شامخة في تاريخ رجال فلسطين الابطال، و عبرة لكل صهيوني يحاول الانتقاص من كرامة شعبنا.