أماني عودة
فيلم غولدا ذو طابع تاريخي- سيرة ذاتية، للكاتب البريطاني نيكولاس مارتن وللمخرج جاي ناتيف الذي ولد قبيل حرب أكتوبر 1973 في إسرائيل، تدور أحداث الفيلم وقصته بشكل مختصر أيام حرب أكتوبر وما تلاها من تحقيق مع رئيسة وزراء إسرائيل بعد الهزيمة، في سرد دائري يبدأ من المحكمة وطلب "شمعون أغرانت" لغولدا مائير الحديث عن الخامس من أكتوبر وهو اليوم السابق للحرب وينتهي بتبرئة غولدا واعترافها للقاضي بإحساسها بوقوع الحرب، لكن صانع الفيلم يقفز لعام 1978 ليضيف مشهد النهاية المتمثل بموتها.
غولدا تجتمع مع الوزراء والجنرالات في بيتها/ مطبخ غولدا لرسم تفاصيل المعركة
غولدا الشخصية الحكائية داخل الفضاء السردي
ارتبط سرد قصة الفيلم/ حرب أكتوبر بشخص غولدا فنحن كمشاهدين نعيش تجربتها ونتلقى وقع الحرب ومجريات المعارك عليها، لذا فصانع الفيلم يرتكز على السرد المقيد كإطار يمرر من خلاله ما يوجه به المتلقي.
فسرد الأحداث منوط بالشخصية الرئيسية التي كان لها البطولة المطلقة، يتمثل المشهد الافتتاحي بسرد يشبه الوثائقي مختزلاً التاريخ منذ عام 1948 حتى عام 1973، كان ذلك عبر دخان سيجارة سنرى أن مصدرها هي غولدا إذ تستقل السيارة لتمثل أمام لجنة أغرانت في القدس.
وغولدا مائير المولودة في كييف عام 1898 من أوائل اليهود المهاجرين إلى فلسطين وكان لها دور بارز في التفاوض مع السلطات البريطانية وتحقيق أهداف الهجرة اليهودية وهي شاهدة على تأسيس "دولة إسرائيل"، يعرفنا صانع الفيلم على تلك الصلة من خلال السرد الوثائقي الانتقائي من خلال دخان سيجارة سنراه كثيراً. يتجلى أمامنا تاريخ يُسرد من خلال مشاهد أرشيفية يصاحبها صوتٌ راوي للتسليم بصحتها، فالوثائقي هو الحقيقة!
نسمع الراوي" بينما تسمعون صوت الرشاشات في الأراضي المقدسة التصفيق يهطل في واشنطن حيث يقف العبريين فرحاً بمناسبة ولادة الوطن اليهودي الجديد"، هذه الترجمة الجميلة التي يعبر فيها الفيلم عن نكبة الشعب الفلسطيني بما يشبه طقوس الاحتفال بالمولود البكر! فمن خلال الخلفية السوداء نرى تلك الصور "الموثقة" للحوادث والمحطات التاريخية، فيتجلى عام 1948 كنافذة نور في منتصف الكادر يصب فيها سرب الطيور في إشارة إلى المهاجرين اليهود واستخدم كلمة "العبرانيين" في تثبيت لرواية أن احتلالهم لفلسطين إنما هو عودة للوطن الأم، ونرى الراقصون ثم خارطة فلسطين وهي موسومة ب Israel وهذا بالطبع ليس سرداً انتقائياً وإنما يقوم على التغييب والإنكار، فيشير إلى "محاولة" الهاجاناة طرد العرب، وعصابة الهاجاناة لم "تحاول" وإنما نفذت؛ إذ قامت بمجازر ممنهجة لترويع الفلسطينيين وترهيبهم وحملهم على الهجرة، لكن الراوي يقول "العرب" بدلاً من الفلسطينيين. ولم يشر إلى تهجير 957 ألف فلسطيني. ولا عجب في ذلك فغولدا في مذكراتها تدعي أن عصابات الهاجاناة كانت تطوف في السيارات مستخدمة السماعات لتحث العرب على عدم المغادرة!
ويقفز الراوي لعام 1967 "الحرب بين الدول العربية وإسرائيل إذ أرغم أكثر من 4000 فلسطيني على مغادرة منازلهم" هنا في صدد الحديث عن حرب اسرائيل مع الدول العربية يستخدم "الفلسطينيين"، وفعل النزوح بلغة خفيفة "مغادرة"! ويقلص عدد ال 300 ألف لاجئ إلى 4 آلاف فقط في إشارة إلى ثمن مقارعة الدول العربية لدولة إسرائيل، إضافةً لاستيلاء إسرائيل على صحراء سيناء وهضبة الجولان لنرى الخارطة وقد امتدت أكثر. ومن الفضاء المعبق بدخان السجائر والمنفضة الممتلئة بأعقابها يوجز لنا الراوي عام 1969 وعام 1973 وينتهي "التوثيق" بظهور للسادات في إحدى خطبه في جملة مبتورة بلا معنى: "على شان كدة أنا".
تبدو هذه "القطعة الوثائقية" كأنها منفصلة عن الفيلم لكنها تأتي لإضفاء الواقعية عليه، فاستخدام المواد الأرشيفية في الروائي وفقاً لغرايبة يهدف إلى "زيادة صدق المادة المعروضة لزيادة الإقناع بالحدث فالمادة الوثائقية هنا لا تأخذ موضوعها بل تدخل ضمن الذاتية التي يتميز بها الفلم الروائي، لذلك يستطيع صانع الفيلم تطويعها حسب مادة الفلم الروائي ولكنها ضمن هذا السرد فإنها تأخذ سمة الحقيقة".
الالتقاء مع البطل... الغوص في عيون غولدا
يردنا صانع الفيلم إلى مصدر الدخان حيث غولدا تستعد لمغادرة السيارة ومواجهة لجنة التحقيق ويبدو المشهد الوثائقي الافتتاحي وكأنما نبت من ذاكرتها، إذ يؤسس الفيلم للتعريف بشخصية غولدا والمعروف عنها بانها "مدخنة شرهة"، رغم كم الدخان الذي أعلن عن شخصها ووجودها في الفترات الزمنية السابقة إلا أننا نبدأ في التعرف عليها من خلال "الولاعة العجل" والسيجارة، ثم فمها المزموم بكثير من التجاعيد وهي تنفث الدخان لننتقل إليها داخل السيارة ومن "ظهرها" وشعرها الأشيب للقطة قريبة "غير ملونة" وبتصوير بطيء لنرى عينين حزينتين يشتد الإحساس بألم الشخصية إذ تصبح ملونة فتدب فيها روح "الإنسان" فالجفون الحمراء تخزن الدموع في عيني GOLDA هكذا يظهر اسمها/ اسم الفيلم مع ابتعاد الكاميرا تدريجياً لنرى ملامح أكثر لهذا الوجه هكذا يعرفنا صانع الفيلم على شخصية غولدا، تلتقطها أعيننا كمشاهدين البطلة الإنسانة، تحتفظ ذاكرتها بسجل يمتد من العطاء لإقامة "دولة إسرائيل" وتصرح عيونها بعمق جرحها والأثر الغائر الذي تركته الحرب في نفسها فتقع بدورها في أنفسنا بذلك المزيج الذي يراوحها بين القوة والضعف في مشاهد مختلفة، يراها السائق من خلال المرآة وهي ساهمة تتذكر الطيور التي ستتكرر في دلالات مختلفة في الفيلم وهي هنا امتداد للطيور التي ظهرت في البداية في رمزية دالة على بداية عهدها منذ الهجرة وحتى "الهزيمة" التي منيت بها اسرائيل. تسير كما العجوز بخطىً متثاقلة ووجوم وسط حشد من المتظاهرين ترى صورة "مغبشة" لهم وأصوات متداخلة بايقاع بطيء فنرى غولدا الإنسانة الضعيفة" في تلك العتمة، ومنذ أن تطأ مدخل المحكمة يتحرر الزمن من الإيقاع البطئ وتنتقل معها الكاميرا حتى قاعة المحكمة بزاوية سفلية شامخة وخطاها ثابتة لنستقبل ذلك التحول إلى غولدا الإنسانة القوية المسؤولة، تتقدم أمام لجنة تحقيق أغرانت في القدس عام 1974 تضع حقيبتها وتشرب الماء وتدلي القسم ثم تجلس أمام خمسة من الرجال الذين يتابعون التحقيق في مجريات الحرب، فتبدو كما الأستاذ أمام تلاميذه.
غولدا... اللقاء الأول مع المشاهد
عودة إلى مجريات الحرب أمام لجنة التحقيق
يتبع صانع الفيلم النسق الدائري في سرد قصة الفيلم/ حرب أكتوبر، إذ يعيدنا طلب المحقق في الحديث عن 5 أكتوبر وهو اليوم السابق للحرب إلى مدرّسة الموسيقى في لندن تتلقى اتصالاً من "الكيميائي" فتأخذ منه "العناصر الكيميائية" التي يمليها لها لتتواصل بدورها مع "الخباز" – "السكرتير العسكري" لرئيسة الوزراء الذي يفك ما يسمع لحروف war start وقبل أن ينقلها لغولدا نراها تنزل درج الطائرة في مطار اللد- تل أبيب تطلب إصدار بيان للتعبير عن خيبة أملها في النمساويين بعد استسلامهم للإرهابيين ثم تضبط التعبير الأنسب بترجيح "الإحباط" على "خيبة الأمل"، تتلقى غولدا من السكرتير العسكري نبأ التحذير بالحرب لكنها تستبعدها متذكرةً تحذير شهر أيار الذي لم يصب، وتضيف أن الإشكال في موافقة وزير الدفاع آنذاك موشي دايان الذي لن يعلن التعبئة لكنها تطلب مقابلة زفي زامير رئيس الموساد ولحين الموعد فهي غولدا الإنسانة الأم التي ستقضي يوم الغفران ذلك اليوم المقدس مع ابنها في بيته في القدس، تستقل السيارة مع مرافقتها وتستمع للراديو "بالنسبة للصائمين سيكون الطقس لطيف نتمنى لجميع شعب إسرائيل صوم هادئ استئناف البث بعد الصيام" ثم نرى رئيسة الوزراء تغطي شعرها "للتمويه" وتدخل مركز هداسا الطبي حيث تتلقى العلاج الاشعاعي بسبب "ورم ليمفاوي" فتشعل سيجارة قبل أن يتم الفحص.
وهنا تخلق هذه الأجواء المتوترة ضيق الوقت والإرباك الذي يصيب مواطني إسرائيل، ويحول دون التعبئة السريعة بعد الإنذار المتأخر للحرب، فالمفاجأة لم تسنح ل "الجيش الذي لا يقهر" تنظيم صفوفه.
وقع المعارك على غولدا... الكاميرا تثقل الأثر على رأس البطلة
الجندي العربي غائب و"مؤثرات الحرب" تضغط على مشاعر غولدا
إن الحديث عن حرب يرتبط حتماً بحضور المشاهد القتالية الدالة على بعض المجريات، حتى وإن لم تخلق سينمائياً إذ يمكن الاستعاضة عنها بصور وثائقية -كثيرة ومتاحة- لكن صانع الفيلم يؤطر رؤيته بما يشاء داخل الكادر موجهاً بذلك فهم الجمهور مقتصراً على الجزء الذي يرغب في ترسيخه لدى المتلقي فالمشاهد الحربية المتناسبة مع حرب عام 1973 سترتبط حتماً بالتفوق العربي والخسائر الجسيمة التي مني بها سلاح الجو والمدرعات الإسرائيلي خاصة في الأيام الثلاث الأولى، لكن بدلاً من ذلك يكتفي صانع الفيلم بالإشارة إلى حجم المعركة وأثرها على جيش الاحتلال من خلال غرفة متابعة العمليات، فالمعارك اختزلت بخرائط يفرشها القادة العسكريون على طاولة الاجتماع (بصريا)، وسمعياً كان صراخ الجنود يوحي بهول ساحة المعركة، يأتي ذلك في سياق التعاطف والقاء الضوء على مشاعر رئيسة الوزراء إزاء جيشها، إذاً فصانع الفيلم يوجهنا لمتابعة تأثير الحرب على غولدا فتلازمها الكاميرا وتغمرها بكثير من الصور القريبة فمعظم اللقطات تتراوح بين القريبة والقريبة جداً، لنشعر بوقع مجريات الحرب على غولدا التي ينتفض جسدها مع صوت الجنود الذين يصرخون على الجانب الآخر، ومع تكرار اللقطات التي يحاول فيها صانع الفيلم التركيز على المشاعر الداخلية للبطلة يحاول اصطحاب الجمهور في أعماق غولدا فيشاركنا كوابيسها بكثير من الدخان والأصوات المرعبة الآتية من الحرب، والإضاءة القاتمة، كما يظهر في لقطة قريبة جداً جرح اصبعها وقد غرست إظفر يدها في اليد الأخرى، في مبالغة لصياغة الألم النفسي لغولدا بطريقة بصرية مؤثرة.
الألم النفسي مرئي... غولدا تجرح اصبعها خلال متابعتها للمعارك
كان إيقاع الفيلم بشكل عام بطيئاً إذ اهتم بتسليط الضوء على التفاصيل الدقيقة ليبرز الجوانب النفسية والعاطفية لشخصية غولدا، وقد استعان صانع الفيلم بالإضاءة القاتمة والألوان الداكنة ليقف على الجوانب المظلمة لصراع غولدا مع المرض وصراعها الفعلي في الحرب من خلا العبء النفسي عليها كقائدة.
كما أن الانتقال من مشهد إلى آخر لم يحمل لنا تطور لبناء القصة بقدر ما هو استعراض لمشاهد تأثر غولدا بكل ما يحدث حولها، فمبرر الانتقال من مشهد إلى آخر لم يبنى على أحداث جديدة.
يلجأ صانع الفيلم لحملنا على التعاطف الشخصي ومشاركة فداحة الشعور بالخسارة من خلال عامل القرب، فهناك إقحام لمشاركة ابن السكرتيرة الخاصة لها فهو جندي في سلاح المدرعات ومع أننا لا نرى أي جندي عن قرب إلا أن صانع الفيلم لا يغيب عنه إضفاء مسحة إنسانية من خلال ارتباط والدة الجندي برئيسة الوزراء، وقلق الأخيرة وهي تطالع أسماء القتلى وحزنها إذ تقرأ اسم القتيل وخوفها من ردة فعل الأم وتأثرها لمصابها، نحن كمشاهدين لم نر القاتل/ الجندي العربي، ولا القتيل/ الجندي الإسرائيلي، ولا ساحة المعركة، لكننا سنتعاطف مع الوالدة الفاقدة من خلال رئيسة الوزراء التي كانت تستلقي على الكنبة فتوقظها مرافقتها وفي زاوية مرتفعة للكاميرا ننظر من فوق على غولدا التي تتلقى قوائم القتلى فينذرنا موقع الكاميرا بالقدرية والمصير المحتوم لما تنتظره رئيسة الوزراء فتتأكد من موت ابن السكرتيرة فتقف مقابل الأم الثكلى عاجزة عن المواجهة والمواساة وقد استغرقت في البكاء والألم لمصابها. فخسائر الحرب نراها عبر عيون غولدا في قوائم القتلى وهي تطالعها وتبحث من بين أسماء كثيرة عن اسم يعنيها، وهم أيضاً أرجل "جثث" تتزايد تحمل أرقاماً تراها البطلة كلما عادت لغرفة التصوير ومتابعة العلاج في المشفى عندما تسير فيها عبر ممر المشرحة. إذاً فالمعركة كانت عبارة عن مؤثرات سمحت لنا بتفهم الحالة النفسية التي كانت تصيب غولدا فنتعاطف معها.
سمات البطلة والمراوحة بين الضعف والقوة
بعيداً عن كم السجائر التي أحرقتها الشخصية لتمثل سمات غولدا مائير والتي كان معروفاً عنها بأنها "شرهة في التدخين"، والملامح التي تم رسمها لإبراز تجاعيد بشكلٍ مبالغٍ فيه، حاولت الممثلة تقمص غولدا حد "ارتداء ثوبها" في محاولة للتقليد الحرفي لطريقة مشيتها وحديثها هذا في الجانب المادي، لكن في البعد النفسي فإننا كمشاهدين نشعر بسيدة كبيرة في السن "تحرق" أعصابها مع كمية السجائر بشكلٍ مبالغٍ أيضاً، وأكبر همها هو شعبها الذي يبقى حاضراً في ذهنها كأسراب طيور مهاجرة.
تبرز شخصية غولدا المرأة القوية دائماً ويقف من حولها الرجال لكنها تبدو أكثر قوةً منهم، فالوزراء ينتظرون أوامرها منصاعين، فهذا شارون- رئيس وحدة المدرعات "كلب مطوق" ينتظر أوامرها! وعندما بدأت الحرب كان من المفروض أن يظهر أحد ما يطمئن "شعب إسرائيل" لكن وزير الدفاع يبدو مهزوزاً مرتبكاً، بينما تطل هي بدورها على الشاشة متماسكة مدعية بأنها كانت على علم منذ أيام بنية مصر وسوريا، ومؤكدة على كون النصر سيكون حليفاً لإسرائيل. وعلى الرغم من الخسائر التي مني بها الجيش الإسرائيلي إلا أنها تقرر الاستمرار في المعركة لفرض أمر واقع وقوة تستند إليها لتجبر العدو وتحمله على التفاوض وإلا فهي ستقاتل حتى نهاية الجيش لتنشئ جيشاً من الأيتام والأرامل.
وغولدا ذكية أيضاً فعندما يزورها كيسنجر – وزير الخارجية الأمريكي لمناقشتها في وقف اطلاق النار -وعلى الرغم من مساعدته وقد أمدها بجسر جوي من الطائرات والأسلحة- عندما ذكرها بأنه أمريكي ثم وزير خارجية ثم يهودي -حتى تأخذ بالاعتبار حدود امكانياته في المساعدة -تجيبه بأننا "في إسرائيل نقرأ من اليمين لليسار، في تلميح ذكي لإعادته لأصله اليهودي والعبري، إذ أن اللغة العبرية كما العربية تقرأ من اليمين لليسار، وكأنها تشير إليه بأن "يتذكر أصله". يجري ذلك الحديث في مطبخها إذ تقدم له الحساء الروسي وتتعمد أن تضايقه بالحديث عن روسيا واقحامها في كل جملة تقريباً حتى تستفزه وتذكره بعدوها الذي "يدعم حلفاؤه العرب" في مواجهتها، تظهر غولدا امرأة صلبة متحدية بينما وزير خارجية أمريكا في موقف المستكين المنصاع.
وغولدا عجوز تتمتع بحدس أيضاً إذ شعرت بأن هناك شيء ما كما أخبرت سكرتيرها العسكري ورئيس لجنة التحقيق، وهذا ما ظهر بصرياً عندما رأت من أعلى العمارة التي يقع فيها مكتبها سرب طيور يتجمع في السماء ويطير باتجاهٍ ما وعندها شعرت بالتهديد "حدست" بالخطر على أبناء "إسرائيل" فأصبح صوت رفرفة أجنحة هذه الطيور كما الطائرات وهبطت خائفة داخل المدخنة، وكأنما هي الملجأ، وكان حدسها هنا يشير إلى أن الحرب وشيكة.
يحاول صانع الفيلم خلق التوازن بين الجوانب الإنسانية والسياسية فيقع في المبالغة في تمثيل كلتا الحالتين: القوة والضعف. وبينما يتسع الكادر ليرينا في لقطات واسعة قوة غولدا وسيطرتها على "الجنرالات" والقادة، وقدرتها على التماسك واتخاذ القرارات، تصبح اللقطات القريبة أكثر قدرة على تشخيص حالة الضعف والهشاشة والاقتراب من الإنسان وذلك يتضح جلياً كلما اقتربنا من العالم الداخلي لغولدا، ليصبح الأثر النفسي العميق طافياً على ملامح الشخصية فيلتقط المشاهد كل ذلك الألم فيتحقق التعاطف، لكنه يرتكز غالباً على وجود السيجارة ودخانها الذي يلازم لبطلة على سرير العلاج وسرير الموت وسرير النوم فيكون بصرياً مدخلاً مثالياً لكابوس يتعلق بالحرب ومجرياتها فننسى كمشاهدين خطورة نوم غولدا والسيجارة مشتعلة في يدها ونغوص مع دخانها في اللاوعي ونعيش الكابوس الأليم.
البعد الخاص: غولدا الإنسانة الضعيفة
على الرغم من اقتدار الممثلة هيلين ميرين إلا أن تجسيدها لشخصية غولدا بدا كما انها تسير في قالب، مقيدة بالجانب الشكلي من حيث أسلوب الحديث والحركة والمشي والملابس والتدخين، حتى فقدت القدرة على الأداء الحر لتضفي على أسلوبها الجانب الإنساني، فاستغراقها في تمثيل الشخصية كان متقناً شكلاً لكنه غير متوازن في التعبير عن عمق الشخصية ومشاعرها، هذا أضفى ضعف الأداء وجعله يبدو آلياً ومكرراً إذ ابتعدت الممثلة عن تقديم الشخصية بطريقة طبيعية فاقتربت من المبالغة والاستعراض.
ومن الوارد أن يكون السبب وراء ذلك الإحساس بالمسؤولية إزاء تجسيدها لشخصية حقيقية بغرض الالتزام بالدقة التاريخية في التصرفات وأسلوب الحديث والمظهر الخارجي، أو للتسليم بصحة كل الأحداث والمعلومات الموجودة في الفيلم على اعتبار الشبه القائم بين الممثلة والشخصية الحقيقية وفي ذلك اقتراب من الواقع، ومهما يكن السبب إلا أن صانع الفيلم استعان بالكاميرا كثيراً للاقتراب من غولدا ليحدث فينا التأثير النفسي المقصود، ويترك للممثلة مسؤولية الأداء الشكلي المتقن والتركيز مع السيجارة التي لم تفارق يدها في أي مشهد!
بين اليقظة والنوم... كابوس الحرب وغوص في الذات
استمالات الاقناع المنطق أولاً ثم العاطفة
دوماً كانت إسرائيل "الابن الضال" لأمريكا، وكان على صانع القرار الأمريكي أن يرفع سماعة الهاتف من جانبه في أي وقت ليسمع "مسكنة" من الجانب الإسرائيلي ليبدأ بدوره جهوداً دبلوماسية تتطور إلى جسرٍ جوي يمدهم بالطائرات الحربية، هكذا الحال في الفيلم، فمنذ أن تنطلق صافرة الإنذار في "تل أبيب" تطلب غولدا وزير خارجية أمريكا كيسنجر لتوقظه من النوم بعد أن تخبره بعدوان "الجيران"، ويعد بدوره بجهودٍ دبلوماسية، تعاود الاتصال مرة أخرى لإمدادها بالطائرات المقاتلة تعويضاً عن خسارتها، هي تطلب بكل جسارة وتستنكر التلكؤ الذي يبديه وزير الخارجية وتنوه إلى قوة خصمه (روسيا) الذي يقف حليفاً داعماً للعرب وقد أمدهم بجسر جوي، إذ أن الخطر وجودي و"البقاء" لا يعتمد على الهدايا الأمريكية! فهي تريد دعماً غير محدود.
إن الهيمنة التي تتمتع بها "إسرائيل"، ذات القدرة العسكرية التي تجعلها تقف قوية فارضة شروطها تجعل خيارها الأمثل هو المنطق والإقناع، لكن إذا ما لقيت تلك الوسيلة حائط صد كما حدث مع غولدا وهي تحاول الضغط على واشنطن للحصول على الدعم الإضافي فإن الاستمالة العاطفية "المسكنة" تصلح كسلاح اقناعي موازي،
ففي تواصل لها مع كيسنجر عندما يحذرها بأن روسيا لديها ما تفعله في الحرب تقول بأنها لم تعد الفتاة الصغيرة التي كانت تخشى الروس وتتحدث عن ذكرى "أليمة" ارتبطت بطفولتها إذ أن والدها في أعياد الميلاد كان يلجأ إلى تثبيت الألواح الخشبية ودقها بالمسامير ليحمي عائلته فالروس عندما يسكرون يحتفلون بضربهم لليهود، "دعني أخبرك شيئا عن الروس يا هنري! عندما كنت طفلة في أوكرانيا خلال أعياد الميلاد، كان والدي يغلق نوافذ منزلنا بألواح خشبية وكان والدي يخفينا في القبو من أجل حمايتنا من القوزاق الذين كانوا في حالة سكر ويعتدون على اليهود وفي بعض الأحيان يضربونهم حتى الموت في الشوارع من باب التسلية. كنا نبقى في حالة صمت حتى أن يمر القتلة." هي تتحدث بطريقة مؤثرة وتقربنا الكاميرا لوجهها الذي يفهمنا مقدار الألم النفسي الذي عاشته في طفولتها والذي ما زال مبرراً حتى الآن، وهذا بالطبع يأتي في سياق التذكير بمأساة اليهودي في كل بقاع الأرض واستهداف كل العالم له.
هذا ديدن إسرائيل التي تجعل من أي حادثة كأنها استمرار لمعاناة اليهود منذ التيه مروراً بالتضييق عليهم في دول أوروبا وروسيا بالتحديد وصولاً "للهولوكست"، وما زلنا نسمع من قادتهم حالياً تلك المقولة "حرب وجودية، تهديد وجود إسرائيل- معاداة السامية".
حتى أن الحادثة التي تذكرها غولدا لم تأت في سياقها الصحيح ولكنها جاءت على ذكرها خلال سردها في مذكراتها لمرحلة الطفولة الأولى في كييف لكن صانع الفيلم يخلق مناسبة ليضعه في سياقٍ ما (لأجل التعاطف وتبرير القوة).
نهاية سعيدة... الاحتفال بالنصر!
هل حملت حرب عام 1973 هزيمة حاسمة لإسرائيل؟
إن ملامح القوة لم تغب عن غولدا/ إسرائيل فمنذ اندلاع الحرب تخرج على الإعلام مدعية بمعرفتها بالحرب منذ أيام لتوحي بقدرة إسرائيل الاستخباراتية، وأن عدم استباقها كان استجابة لرؤية أمريكا بأن لا تكون الضربة الأولى من إسرائيل هذا يقلل حرج أمريكا أمام الدول العربية التي كانت حينها "تجاملها" وتضع غضبها في الحسبان، إذ كانت دول الخليج العربي منبعها الرخيص للنفط. هذا الكذب الذي تطلقه غولدا لا ينتقص من ثقتها ولا يربكها، وإنما يحافظ على "قشرة القوة" التي تحرص إسرائيل على وجودها غطاءً للضعف والارتباك الداخلي.
حتى لا تكون نتائج الحرب واحدة: ربح أو خسارة، قام صانع الفيلم بتجزئتها على معارك يومية، وفي سرد غولدا لوقائع الحرب خلال تحقيق أغرانت نتوقف عند يومين من المعارك الطاحنة التي ترفع عدد القتلى من الجانب الإسرائيلي، إلا أن كل ذلك لا يتعارض مع رؤية صانع الفيلم في تسجيل أي نصرٍ لغولدا، فعندما يحاصر جيشها "الجيش الثالث/ المصري" و"تمسك السادات من عنقه" تكون المفاوضات المبدئية ويبلغها رئيس الأركان بعد لقائه مع اللواء الجمسي بأن السادات يشير إليها باسم رئيسة وزراء إسرائيل، هنا تستقبل "بشائر النصر" متسائلة: استخدم تلك الكلمة؟ ليأتي التأكيد فتحتفل غولدا مع وزرائها إذ أن السادات/ مصر اعترف بدولة إسرائيل، وتلك المبالغة غير واقعية، فتاريخياً كان السادات معنياً باستعادة الأرض التي احتلتها إسرائيل في عام 1967 وقد استجاب لاقتراح "جونار يارينغ" ممثل الأمم المتحدة في الشرق الأوسط عام 71 لاستعادة سيناء مع ضمان الملاحة الإسرائيلية في قناة السويس والبدء في مفاوضات السلام، لكن الرفض كان الموقف الرسمي لحكومة غولدا... إذاً فهي لم تتصبب عرقاً كي تجر مصر إلى طاولة المفاوضات!
ولم يفت صانع الفيلم أن يجعل من مشهد النهاية شهادة غولدا على انتصارها وهي تتابع عن فراش الموت مقطع وثائقي يتمثل بلقائها مع السادات ومبادلتها له الهدايا والنكات قبل أن تنهي سيجارتها وحياتها وألمها إزاء مقتل أبناء شعبها، فبعد وفاتها تسير الكاميرا ل"ممر" المشفى الذي تموت فيه مجموعة من الطيور، وكأن هذا الكابوس لم ينته سوى بموتها.
احتفال بالنصر... السادات قال "إسرائيل"
غولدا أم سمعة إسرائيل؟ مقاربة بين الأمس واليوم
ان ادعاء كون الفيلم هو توثيق لحياة غولدا من خلال بضعة أيام هو أمر غير منطقي لإنه لم يكن موفقاً أيضاً، فغولدا المدخنة دائماً منذ بداية الفيلم لم يظهر من شخصها سوى عجوز تتراوح بين القوة والضعف، تتردد بين الاجتماعات وغرفة متابعة العمليات وسرير "الكوابيس" وممر المشرحة، لكن الإنجازات تغيب عنها مع أن تاريخها يحفل منذ العشرينات ولما بعد احتلال فلسطين بكثير من العمل لصالح اليهود و"دولة إسرائيل"، فغولدا سخرت حياتها منذ العشرينات لخدمة الصهيونية، فأي فترة زمنية كانت ستعطيها وزناً وقيمةً أكبر، لكن ما رأيته هو محاولة صانع الفيلم أن يمرر فكرة واحدة جوهرية وهي : إن حرب عام 1973 لم تكن سوى "كبوة جواد"، فهذا الجيش الذي لا يقهر باغته العدو في يوم له قدسيته يتحرر فيه اليهود من مسؤولياتهم، كما أن نظام الاتصالات- التجسس لم يكن مفعلاً، والدلالة هنا مزدوجة، فهي نفي الشبهة بضعف نظام الاستخبارات والتجسس الذي تباهي به إسرائيل، وغياب شعورها بالخطر بعد بطر النصر والتهام الأراضي الفلسطينية والسورية والمصرية، هذا بالتحديد ما حدث بعد خمسين عاماً في ذات الموعد بفارق يوم واحد في 7 تشرين 2023، عندما اخترقت المقاومة الفلسطينية جواً وبراً الحدود الفلسطينية المحتلة كاشفةً الفشل الاستخباراتي على الرغم من التطور التقني الذي لا يقارن بالسابق، هذا يعني "خلخلة" أسطورية تلك المؤسسة.
والمفارقة هي ذلك التشابه ليس في التوقيت فقط وإنما في الحيثيات، إن التكتيك الذي اتبعته المقاومة يشبه إلى حد كبير ذلك السلوك الذي اتبعته القيادة المصرية والذي اعتمد على الإعلان "الوهمي" للحرب مراتٍ عديدة أخذتها إسرائيل في شهر أيار من العام ذاته على محمل الجد فأعلنت التعبئة وهذا كلفها الكثير مادياً، ثم استهانت فيما بعد بقدرات مصر، فالحرب بنيت على تخطيط وسرية وحنكة من الجانب المصري الذي أعد العدة وأوصل المؤسسة العسكرية والاستخبارات لقناعة مفادها أن أي فرضية تشير إلى وجود حرب فإن التقدير هو استبعاد احتمالية الحرب -كان هذا جزء من التكتيك الذي اتبعته مصر ولم يمر عليه صانع الفيلم-هذا بالضبط كان منهج المقاومة إذ هددت بالتصعيد رداً على الانتهاكات المستمرة والتدنيس الذي شهده المسجد الأقصى وطال الاعتداء على مصليه، ولم يُفهم منه سوى الضعف.
والمقاربة بين اليوم وأمس البعيد تتمثل أيضاً في عقيدة أمريكا:" سنحمي إسرائيل دائما" كما قال كيسنجر في مطبخ غولدا قبل خمسين عاماً.
البحث عن أي انتصار أيضاً ... في الوقت الذي أبرز فيه صانع الفيلم نجاح غولدا في انتزاع اعتراف مصر بها وبداية مفاوضات تكللت باتفاقية "كامب ديفيد"، ما تزال الآلة العسكرية تحاول تسجيل أي ملامح لانتصار من بين الركام الذي أحدثه سلاح الجو فأصبح عريناً للمقاومين يطلون من خلاله موقعين الخسائر في صفوف العدو مخلين توازن القوى في صور واقعية ستربك صناع السينما مستقبلاً وهم يحاولون ترميم أثر الجرح الغائر الذي ضربته المقاومة في عمق "الجيش الذي لا يقهر".
ولقراءة الفيلم في سياقه التاريخي يمكن لنا العودة لما كتبته غولدا مائير في مذكراتها والرجوع إلى بعض الوثائقيات في تلك الفترة، فبعض الأحداث في الفيلم لا تُفهم إلا في معطياتها الحقيقية لأن التصرف الدرامي ارتكز على حقائق ووقائع.
لكن وإن كانت مذكرات غولدا مرجعاً لصانع الفيلم هل تبرأ مذكرات السياسيين والعسكريين من التزوير وهم يدركون أن ما يكتبونه للتاريخ؟ ألم يترجم صانع الفيلم تلك التفاصيل عبر حروف الطابعة في مشاهد الاجتماعات والمحكمة، وقلم غولدا مع دفتر ملاحظاتها؟ ألا توحي تلك بافتراض سرد الحقيقة/ التوثيق؟
المراجع:
· https://www.pcbs.gov.ps/postar.aspx?lang=ar&ItemID=1420 الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني
· موقع وزارة الخارجية الفلسطينيةhttps://cutt.us/GQ6Lj
· غرايبة، عامر. (2013). آلية اشتغال المواد الأرشيفية في الفلم الروائي. المجلة الأردنية للفنون، م6، ع1، عمان، الأردن