البحث عن الحرية وتجليات الحضارة العربية في رواية "مِسك الكفاية"/ بقلم: د.جوني منصور
خندقجي أسير أمني يقبع في سجون الاحتلال الاسرائيلي البغيض بعد أن صدر حكم عليه بسجن مؤبد لعدة مرات
هذه الرواية تسير بنا في خط أولي يصف تطور وسير حياة الخيزران وخط ثانٍ يصف لنا نمو وتطور علاقتها بالدولة وخاصة بشخص رئيس الدولة وفي هذه الحالة الخليفة
بكل افتخار واعتزاز نقول لباسم خندقجي أنك لست مبدعا فحسب بل محب للحرية وسترى شمس الحرية قريبا ونحتفي بها معا في وطن يبحث عن حريته الآتية لا محالة.
قبل الخوض في تفاصيل عنوان هذه المقالة لا بد لي من تعريف أولي لـ "مسك الكفاية". "مسك الكفاية" اسم رواية حديثة العهد كتبها باسم خندقجي من نابلس، ولها عنوان فرعي "سيدة الظلال الحرة"، وهي صادرة عن الدرا العربية للعلوم ناشرون ببيروت. وخندقجي أسير أمني يقبع في سجون الاحتلال الاسرائيلي البغيض بعد أن صدر حكم عليه بسجن مؤبد لعدة مرات. لكن الأسر لم يفت من عزيمته وبأسه فتحدّى السجّان والمحتل بالقراءة والمواظبة عليها، وبالتالي كتابة هذه الرواية الرائعة وتحريرها من السجن لترى النور قبل أن يراه هو بنفسه، وذلك بهمة عائلته الحريصة كل الحرص على متابعة مسيرة باسم خندقجي بنشر فكره وإطلاقه حرًّا في سماء الحرية .
تتطرق الرواية إلى فصل زمني في غاية الأهمية من تاريخ العرب والاسلام في العصر العباسي، وتحديدا في العصر الذهبي الزاهر الذي يمثله ابو جعفر المنصور والمهدي والهادي وهارون الرشيد.
محور الرواية حياة الخيزران والدة هارون الرشيد التي سُبيت صغيرة وبيعت جارية إلى ان وصلت إلى قصر الخلفاء العباسيين، وأصبحت محظية عن المهدي خليفة الدولة العباسية في نهاية القرن الثامن. ولعبت الخيزران دورًا مركزيًا في توجيه دفة الحكم والتأثير على صناعة القرار واتخاذه، سواء كان ذلك لدى الخليفة نفسه الذي كان مغرما بها إلى درجة كبيرة جدا، أو غيره. وهي عرفت كيف تستفيد من تعلقه بها، بالرغم من وجود مئات من الجواري الجميلات الأخريات في القصر في بغداد وغيرها من مدائن الخلافة العباسية.
فما السر في هذا الدور الذي لعبته هذه المرأة؟ لا شك في ان مجموعة من المقومات تجمعت في شخصها لدرجة أن اصبحت الدولة بيدها، تتصرف بها وفق ما تشاء دون ان يوقفها احد. فجمالها الخلاب، وشخصيتها البارزة وحضورها الظاهر في حياة القصر والمناسبات التي نظمت فيه، وبلاغة كلامها في حوارها ومخاطبتها للخليفة وغيره من رجالات الدولة، الخ من المقومات، جعلتها تتحول بسرعة لتكون المرأة الأولى، بمفاهيم عصرنا هذا.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انها استفادت من خبرات غيرها من الجاريات اللاتي كن يعشن في القصر ولهن علاقات مع الخليفة وكبار رجال الدولة. هذه الخبرات منحتها قدرة على التعاطي مع الشأن العام وان تؤثر على الخليفة في اتخاذه لقرارات مصيرية في غالب الأحيان.
بين هذه المشاهد المثيرة للانفعال والتفاعل والمحركة للخيال البشري أثناء قراءة تسلسل الأحداث بوصف شيق وبلغة جذابة ، يسير بنا الحدث التاريخي نحو باب يفتح على مركبات حضارة رائعة في الجمال والتركيب.
حيث يحمل الكتاب بين طياته أوصافا للحياة اليومية التي كانت تجري في قصور وأروقة هذه القصور بين الخليفة وجواريه وحاشيته. هذه العلاقة التي لم تتوقف كتبُ ذاك الزمن ومن بعده بوصفها على انها كانت مفتوحة، ونعني بـ "مفتوحة" أن حواجز كثيرة لم تكن قائمة أو موجودة في شبكة العلاقات بين الرجل والمرأة، بين الخليفة وبين جواريه. كما أنها تعكس لنا صيرورة الحياة ونموها ثقافيا واجتماعيا من خلال مشاركة الجواري والغلمان في الحياة الحاصلة في القصور. قد يبدو هذا الأمر غريبا عن مفاهيمنا وتصوراتنا؟ لكنه الواقع الذي عاشته القصور في العصر العباسي أكثر من أي عصر آخر. وهل يعود ذلك إلى سياسات وتوجهات الخليفة العباسي نفسه؟ أم يعود ذلك إلى طبيعة العصر الذي نحن بصدده؟ من الواضح أن الدولة العباسية قد بلغت شأوا عاليا من الرقي والتقدم، ونجحت في أن تستقبل وتستوعب مركبات حضارية متنوعة من لغات وثقافات وعادات وتقاليد فارسية وتركية وبيزنطية وأرمنية وحبشية وهندية وسواها. كل هذه انضوت تحت سقف الحضارة العربية لتكون معا حضارة جديدة منفتحة ومفتوحة على غيرها من الحضارات. وهنا يكمن سر الحضارة العربية في انها خيمة كبيرة تتسع لكثير من المكونات بحيث يتمتع كل مكون باستقلاليته والتزامه نحو العروبة لغة وحضارة وثقافة ونهج حياة.
فهذه الرواية تسير بنا في خط أولي يصف تطور وسير حياة الخيزران، وخط ثانٍ يصف لنا نمو وتطور علاقتها بالدولة، وخاصة بشخص رئيس الدولة وفي هذه الحالة الخليفة. لدرجة أنها وفقًا للمصادر قد دفعت بعدد من الجواري لينفذن عملية اغتيال لابنها موسى الهادي بهدف وصول ابنها هارون الرشيد إلى السلطة. ويكون السؤال هنا إلى هذه الدرجة يبلغ كره الأم لابنها؟ أو لنصيغ السؤال بطريقة أخرى: هل يمكن أو يعقل أن تخطط أم لقتل ابنها فلذة كبدها؟ هذا النوع من الأسئلة لا يسألها النص التاريخي، بقدر ما يسأله النص الروائي. ولهذا الغرض جاءت هذه الرواية لتقدم لنا جوابها بأنه نعم. فالغاية تبرر الوسيلة. فالعلاقة البشرية بين الخيزران الأم والهادي الخليفة الابن لم تكن على سواء. كان الهادي يدرك تماما أن أمه تتدخل في شؤون الدولة، وخاصة في شؤونه هو. لذا سعى إلى اقصائها جانبا ليتاح له العمل وفق رؤيته وتوجهاته السياسية. وبالرغم من تناول المصادر الأولى من ذلك العصر وحوله لهذه الحادثة المؤلمة، إلا أنه وبدون أدنى شك قد حصل إنكسار وتشوه في العلاقة بين الخيزران وابنها الخليفة الهادي، وأرادت أن تنتقم منه بهذه الطريقة الغريبة الذميمة بأن تجلس الجواري على وسادة وضعنها فوق وجه الهادي بعد ان اسكرنه. ايعقل ذلك؟ هذا ما حصل.
في الخلاصة، فإنني اعتقد ان رواية "مسك الكفاية" أعادت إلى الحياة ذلك الزمن الجميل بكل مكوناته الحضارية، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا. ووفق الكاتب بالرغم من ظروفه الحياتية في أن يقهر الظلم، وان يقول كلمته. كلمته هي"البحث عن الحرية" من خلال حرية المرأة التي مثلتها الخيزران. فـ "سيدة الظلال الحرة" أي الخيزران هي امنية باسم خندقجي في أسره. وماذا يريد الأسير أكثر من حريته؟ نحن وبكل افتخار واعتزاز نقول لباسم خندقجي أنك لست مبدعا فحسب بل محب للحرية، وسترى شمس الحرية قريبا ونحتفي بها معا في وطن يبحث عن حريته الآتية لا محالة.
بقلم: د.جوني منصور