لم تعد ظاهرة الفساد اليوم مجرد مشكلة داخلية تتعلق بدولة ما، بل أصبحت ظاهرة معولمة، وأشكال وأنماط هذه الظاهرة أصبحت معقدة لدرجة يصعب التعرف عليها أحياناً، وتعد هذه الظاهرة من الظواهر الخطيرة التي تواجه الدول، حيث إنها تنخر في جسم المجتمع ابتداءاً بالجانب الأمني، ثم عملية التنمية بكل أنواعها والتي تؤدي إلى عجز الدولة عن مواجهة تحديات إعادة الأعمار وبناء البنى التحتية، فالفساد بمفهومه كما عرفته كافة المجتمعات في كل الأزمنة والعصور، ظاهرة عالمية ومستمرة، لأنها لا تخص مجتمعاً بذاته أو مرحلة تاريخية بعينها، ففي اللغة يقال (فَسَدَ) الشيء، (يَفسِد) بالضم (فساداً) و (أفسده ففسد) والمفسدة هي ضد المصلحة، والفساد بمفهومه الشامل هو (مرض اجتماعي خطير جداً إذا انتشر في أي مجتمع أنهار المجتمع بجميع مؤسساته العامة والخاصة، مما يؤدي بشكل حتمي إلى زعزعة أمن واستقرار أي بلد في العالم، وهو التلف والخلل والاضطراب، ويعني الحاق الضرر بالأفراد والجماعات وهو ناشئ عن سلوك الإنسان وحده).
ولا شك أن انتشار ظاهرة الفساد في الأونة الأخيرة بشكل كبير، كان بسبب غياب الحكم الصالح، والمساءلة والشفافية، وتعقيد الأنظمة الإدارية، وضعف القانون والسلطة القضائية، لأنه حتماً إذا توفرت هذه الأمور سوف تقلل من هذه الظاهرة، وحيث أن لهذه الظاهرة أثار وخيمة ومن بين هذه الأثار هو تأثيرها السلبي على المجتمع بسبب الهدر والضياع في المال العام وسوء استخدام الموارد العامة.
فمؤسسات المجتمع المدني، تعد السلطة الخامسة من السلطات المدنية، التي أنتجها العقل البشري، لتنظيم شؤون الحياة والمجتمع، فقد جاءت بعد السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، ووجد الإنسان أن هذه السلطات لا يمكن وحدها أن تقوم ببناء مؤسسات الدولة، وجاءت الحاجة إلى إيجاد مؤسسات جديدة فكانت السلطة الرابعة وهي الصحافة والإعلام، ثم السلطة الخامسة مؤسسات المجتمع المدني، فالإسهام في بناء مؤسسات الدولة يحتاج إلى تظافر جميع الجهود والتوجهات والمؤسسات وضمنها مؤسسات المجتمع المدني.
ويرتبط الفساد بعدم الاستقرار السياسي، حيث أن الفساد مؤشر مستقل مهم يدل على احتمال (تغيير النظام الحاكم) في الدول، حيث أن الفساد واسع الانتشار يؤدي إلى خيبة الأمل الشعبية إزاء الحكومة، على الرغم من العلاقة بين الفساد والحكومة، حتى ولو أمكن قياسها بدقة، فلن تكون علاقة تامة، لأنه سيؤدي إلى إضعاف هيبة الدولة والحكومة أمام شرائح المجتمع، ويفقدها المصداقية.
حيث يلحظ المتابع للشأن العربي، أن الكثير من حوادث الفساد والنهب المنظم اقترفها من يسمون انفسهم ممثلو الشعب، الذين وجدوا أنفسهم في مقاعد نيابية صورية للمصادقة على النهب المستبد، فآثروا استغلال مواقعهم للإسراع بقضم ما يستطيعون من كعكة المال العام، تحت ستار مصلحة الوطن والمواطن والحفاظ على المصلحة العامة التي أصبحت في واقعنا العربي مجرد كلمة من التراث بالتحليل نجد أن غالبية البرلمانات العربية أو المجالس التمثيلية لا تحقق الغاية التي انشئت من أجلها فهي في حقيقتها لا تعدو أن تكون مجالس استشارية غالبية أعضائها لم يصلوا إلى المقعد النيابي عن طريق صندوق الاقتراع (وإن كانوا مروا عليه صورياً)، بل أوصلهم رضى سدة الحكم عنهم ومحاباتها لهم، وهذا ما نلمسه في العديد من البلدان العربية، أن يتولى شخص ما رئاسة تلك المجالس لفترة ليست بالقصيرة ولعدة دورات متتالية، يكون على الأغلب أما أحد أعضاء حزب الرئيس الحاكم البارزين، أو قريبه، أو صهره، أو من أفراد عشيرته.. إلى غير ذلك.
وينطوي هذا المفهوم المتعدد الأبعاد، حتى نتمكن من محاصرة الفساد عند أدنى المستويات، لا بد من تحسين أوضاع صغار الموظفين في الخدمة المدنية، من حيث مستويات الأجور والرواتب، وما يتمتعون به من مزايا عينية إن وجدت، حتى تصبح تلك الأجور والرواتب أداة لـ"العيش الكريم"، مما يساعد في زيادة درجة الحصانة إزاء الفساد والمفسدين، وبما يساعد في القضاء على "الفساد الصغير" بأشكاله وصوره، حتى لا ندفع بهم إلى تعويض ذلك بتقبل الرشاوى وتسهيل بعض المعاملات غير المشروعة، فضلاً عن أن انعدام أو ضعف أجهزة الدولة الرقابية المسؤولة عن متابعة عمل الموظفين في الوزارات والمؤسسات العامة ما يشجع على ممارسة الفساد، وتتجسد مظاهر الفساد لدى البلدان الفقيرة، التي تعاني بالإضافة إلى الفقر والتخلف من مظاهر شتى للفساد تحدث على مستويات عدة.
وعلى المستوى الاجتماعي، يؤدي الفساد إلى انهيار القيم الأخلاقية القائمة على الصدق والأمانة والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص وغيرها، ويسهم في انتشار عدم المسؤولية والنوايا السلبية لدى الأفراد في المجتمع، ويؤدي كذلك إلى انتشار الجرائم بسبب غياب القيم وعدم تكافؤ الفرص، ويعمق الفساد الشعور بالحقد تجاه السلطة الحاكمة من قبل المتضررين ويزيد من نسبة الفقراء والظلم ويؤدي إلى التراجع في تقديم الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية.
وبالتالي يصعب نظرياً وعملياً الحد من الفساد ونشر ثقافة الشفافية، فالفساد يشبه السوس الذي ينخر بنى الدولة، لا يمكن ردعه دون وجود مؤسسات سياسية قادرة على ذلك في ظل نظام متماسك للمسائلة والتعددية الحزبية.
وصفوة القول أن الفساد أو ما يسمى بشرعنته، ظاهرة ذات أسباب سياسية واجتماعية وأخرى مرتبطة بالنظام، ترجع على عدم وضوح الفلسفة القانونية للتشريعات الصادرة والمطبقة في الدولة، أما الجانب القانوني فهو يظهر من خلال تفعيل الدور الرقابي والعقابي لمؤسسات الدولة، وليست هناك وصفة واحدة لمواجهة الفساد، بالنظر لوجود عدد كبير من العوامل التي تقف وراءه، لكن الانطلاق الحقيقي والشجاع في هذه المواجهة العصيبة، يبدأ بإقامة وإرساء نظام ديمقراطي سليم، يؤسس دولة القانون، ويضعها تحت الرقابة والمحاسبة والمساءلة، ويقر باستقلال القضاء وتداول السلطة، واطلاق حرية الصحافة والرأي والتعبير، من خلال الهيئات التشريعية، والهيئات القضائية، ومنظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الأكاديمية، من منطلق تبنى مفاهيم اصلاحية في مقدمتها مفهوم (مكافحة الفساد بالإصلاح وإعادة التأهيل)، بالاعتماد على استراتيجيات حديثة لمكافحة الفساد.