كتبتها: حياة أنور دوابشة

هناك فئةٌ غير قليلةٍ من الناس تعي الثقافة، وشأنهم شأن الحمار يحمل أسفاراً، لا ينتفع بها أبداً، إن أقحم هؤلاء أنفسهم في موقف سيتوجب أن ينفضوا غبار الكسل عن عقولهم ليجادلوك قليلاً، وستكتشف أن ثقافتهم ليست سوى سراب.

أن تعرف شيئاً عن كل شيء هي الثقافة التي تستحق، ولكن أن تلتقي أنساناً يُخرج لك من أكناف عقله عن كل كلمة تقولها، مثلاً ، حكمةً و قصةً، هذه هي الثقافة النادرة والتي يستوجب علينا أن نطورها ونهدي صاحبها مركزاً يفيد مجتمعاً كالمجتمع الفلسطيني الفقير ثقافياً.

في صبيحة يومٍ غائمٍ ارتأينا أن نزور رجلاً من هذه الفئة النادرة من البشر، هناك بالقرب من المجمع الشرقي حيث ضجة السيارات، يقبع شخصٌ هادئ الطباع رجلٌ أحالت الأيام شعره لبياضٍ شديد، يجلس عل كرسيه الدائري اليتيم اليدين وسط مئةِ صنفٍ من الفاكهة والخضار يقدم لك قهوةً صباحيةً، ويجلس ليأخذك إلى عالمٍ تنسى فيه ضجة الشارع الرئيسي المجاور.

الأستاذ سامي جبر المكنى بأبي حسان، من مدينة نابلس، إذا جلست معه ستجد أن لقب بروفيسور حتى قليلٌ عليه، إنه أبو الثقافة، يبلغ من العمر 55 سنة، هي سنين قضاها بين أوراق الكتب حديثها وقديمها، عربيها وغربيها، ينهل من كل شيء وإن جلست معه ستسرح في عالم شعراء العصور السالفة، سوف يخبرك قصصاً عن جريرٍ والفرزدق، سيحدثك عن أصالة المتنبي، وعن روعة الخنساء سيدغدغ ذاكرتك بأسماء قديمةٍ سمعت عنها في الكتب المدرسية ثم نسيتها، سيتكلم ويتكلم ولن تملك إلا أن تنصت وتنصت.

أبو حسان هو صاحب محلٍ للخضراوات والفواكه، يأبى إلا أن يصنف نفسه كتاجرٍ لا كمثقف، يقول" هذا ما وجدت أمامي، ولا أزكي نفسي، لو كنت شخصاً آخر لاخترت أن أكون مثقفاً، فأنا إذا التقيت شخصاً مثقفاً أكون كمن وجد عربياً في المهجر".

أبو حسان أنهى المرحلة الثانوية وكان يحلم أن يدرس الحقوق فانتسب فوراً لجامعة بيروت العربية، وكان له أن يمكث سنةً يحوِّل حلمه لواقع لكن الظروف السياسية والأمنية حالت دون تحقيق هذا الحلم الوردي.

يروي" كان لابد لي وأن أكافح، عملت لاحقاً في عملٍ مصرفي وبرعت فيه" عاد أبو حسان لفلسطين، ربما لم يطق أن يبتعد عن تراب وطنه، يكمل" حلت الانتفاضة وأجبرت أن أعمل كتاجرٍ لأعيل زوجتي وأبنائي".

منذ أن كان أبو حسان طفلاً صغيراً، صاحب تسعة أعوامٍ، كان يقرأ بنهم شديد، يتذكر قصة حدثت معه في ذلك الوقت وتنفرج أسارير وجهه ويبتسم فيترآى لنا أنها قصة جميلة يقول" كتبت مرة لمدرس اللغة العربية قصةً كموضوع إنشاء وأعجبته كثيراً وأثنى علي وعلى موهبتي ولشدة فرحتي قرأت هذه القصة لأبي".

أبو حسان إنسانٌ غريب، ففي محله حيث زرناه فتح خزانةً قديمة وأخرج رزمةً من الكتب وأخذ يخبرنا عنها ويؤكد أن هناك أكثر من سبعة كتبٍ في سيارته، وأكثر من ستين أخرى في بيته، أينما تطأ قدم هذا الرجل لابد ليده أن تحمل كتاباً يؤنس عقله.

إنسانٌ بمثل هذه الثقافة سيدهشك أن تعلم أنه لم يزر المكتبة ولا وقت لديه لذلك؛ بحكم عمله، لكن مستوى ثقافته غير معقول ولا يوحي لك إلا بأنه شخصٌ ينام بين رفوف المكتبات العامة.

كتب كثيرة حلت بين يديه، كليلة ودمنة، كتب تفسير، كتب جغرافيا وتاريخ، دواوين شعرية، وتجرأ فقط أن تتحداه من الناحية الشعرية، إن لهذا الرجل مقدرة أن يمطرك ب10 أبياتٍ من الشعر في ثوانٍ.

يرى أبو حسان بأن الإنسان يجب أن يجبر نفسه على القراءة، يجب أن يكون مثقفاً ويقول" هناك الكثيرون مثلي في السوق المركزي" هو رجل لا يحلم  أن يصبح كاتباً بل أن يستيقظ يوماً ليرى في هذا العالم ثقافة، يرى أشخاصاً يستمتع حينما يحدثهم، يرى عالماً خالٍ من السطحيات.

يعود أبو حسان لبيته مساءاً وسيجد زوجته -والتي تؤمن بأن كتبه هي عدوها اللدود وكأنها "ضرّة"-  قد جهزت له العشاء ووضعت بجانبه كتاباً كما فعلت البارحة وكما ستفعل غداً وبعد غد.