لطالما شاهدنا منذ الصغر نماذج للأبطال في المسلسلات الكرتونية المفضّلة لدينا، وبعد أن صرنا كبارًا استمرت نماذج الأبطال بالتأثير في نفوسنا ونحن نتابعها ضمن المسلسلات والأفلام العربية والأجنبية.
وما يميّز صناعة "الأبطال" أو "البطل الأسطورة" في الأعمال الأجنبية وخاصة الأمريكية أنّ البطل ليس مجرّد إنسان شجاع بل هو بمثابة "المُخـلِّص" الذي يرتبط به نجاح كل شيء من حوله وبانعدام وجوده قد ينهار كل شيء بل إنه ينهار وفق تسلسل الأحداث في كل مرة.
تكرار هذه الرسالة والإلحاح عليها في كافة الأعمال الموجهة للصغار والكبار، أدخل في اللاوعي الفردي والجماعي للجمهور على اختلاف فئاته أن "البطل الأسطورة" هو نادر الوجود، وإن وُجد فلا بد أنه سيصلح كل ما فسد حوله، وكأنه يحمل عصا سحريَّة لحل المشكلات، وأن القضاء على "البطل الأسطورة" هو بالضرورة هدم لكل ما حوله وانهيار كامل لقواعده التي ينطلق منها: السياسية والجغرافية والتاريخية والاجتماعية.
هذه اللعبة التي يمارسها صُنّاع الخيال على الشاشات الصغيرة والكبيرة، لعبة خطيرة من حيث أنها تهدم دور الجماعة في تحقيق الإنجازات وتعوّل دائمًا على الفردية "الخارقة" والتمجيد المطلق للذّات وتقديمها على الدور الجماعي. وأن "المخلِّص" هو القادر على صناعة النصر، كما أن غيابه يسبّب الهزيمة والانكسار، ويجعل المحيطين به في حيرة من أمرهم، مما يعزّز إلغاء الجماعيّة في كل شيء، ويحصر تغيير الواقع بذوات معرّفة ومحدّدة.
وبما أن هذه اللعبة تنطبق على "الأسطورة" الأمريكي، فهي أيضًا تنطبق على "الأساطير" الأخرى التي قد يصنعها المخرج الأمريكي أو حتى السياسي الأمريكي، لكنها كيف ستخدم السياسي الأمريكي؟
لتوضيح هذا المعنى أقول: الإدارة الأمريكية رسمت شبح "الإرهاب" للأمريكيين واصفة إياه بغير المحدود زمانيًا ومكانيًا ولا دين له، وأنه ممتد حيث تصل يد ذلك "الإرهاب" الدولي غير المرتبط بجنسيّة أو قوميّة ولا يعرف عنه الأمريكان كشعب سوى أنه يرجع لـــِ"جماعات إسلامية متشددة". وعلى رأسها ما يعرف بــــِ"تنظيم القاعدة"، وبما أن هذا "الإرهاب" غير محدود ومترامي الأطراف ولا يمكن الإمساك به من جذوره أو اجتثاثه، فإنّ هذا المفهوم بهذه الطريقة يزرع الرعب في قلوب الناس ويتكفل بانتشار الفوضى المجتمعية وينزع ثقة الشعب بقادته. إلا أنه وبالمقابل كان لا بد على واضعي السياسات أن يتحكموا أكثر بـــــِ"هندسة الرعب" تلك، بحيث لا تخرج عن حدود السيطرة والتحكّم والمسموح به وتبقى ضمن معادلة الفوضى الخلاقة، ولكي تكتمل عناصر هذه اللعبة السياسيّة تلجأ الحكومات والساسة لصناعة "الأسطورة" المعادية.
وفي كل بلد يغزوها الأمريكان والقوى الغربية يتم صناعة "الأسطورة" الشيطانية المعادية مسبقًا، وتصبح الهدف الأول والأبرز الذي ما إن يتم القضاء عليه – وفق المفهوم المذكور أعلاه- حتى ينتهي التهديد القادم من بعيد أو على الأقل جزء كبير منه. لأن مفهوم "البطل الأسطورة" أو "الشرير الأسطورة" قد تم زرعه سينمائيًا وتلفزيونيًا بنجاح في أذهان الجمهور بأكمله.
وهذه الأسطورة "الشريرة" كانت موجودة –بالطبع- في العراق (صدام حسين) وأفغانستان (أسامة بن لادن) ليتحقق مع الخلاص منها خلاص الأمريكان من قوى "الشر والإرهاب" التي تهدد أمن المواطن الأمريكي في بلاده. إلا أن صناعة "الأسطورة الشريرة" لن تتوقف عند شخص واحد أو أكثر بل هي مستمرة طالما هناك "إرهاب" يهدد الأمن القومي الأمريكي.
وفي حالة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي فإن اللعبة تتكرر بشكل أو بآخر، وربما ليست بالسياق نفسه أو الظروف نفسها ولا حتى بتجربة مشابهة للشخوص.
فهناك المقاومة التي ترى فيها قيادة العدو وحكومته جسمًا لا يمكن السيطرة عليه أو الإمساك به، إلا أن لهذا الجسم رأس وعقل مدبّر يتجلى بأولئك الأشخاص الذين يبرمجون أعمال المقاومة ويهندسون خطواتها بدقة وإحكام، وهؤلاء الأشخاص هم وفق المجتمع الذين هم أبناؤه نتاج طبيعي للحالة المُقاوِمة، ونتاج متفق ومتناغم مع السياق الاجتماعي الذين ولدوا فيه. إلا أنهم وفق نظرية الاحتلال كائنات خارقة – هكذا يتم تصويرهم أحيانًا- وهم تجسيد لــــِ"الأسطورة الشريرة" التي تسعى لمحو "إسرائيل" من الوجود وبالتالي إذا وصل الاحتلال إليهم من وجهة نظره، فإنه سيتم القضاء على ما يهدد أمنه واستقراره.
ولا أدلّ على ذلك مما نشرته إحدى القنوات الإسرائيلية بعد الحرب الأخيرة على غزة، فقد أنجزت فيلما وثائقيا يزيد عن 40 دقيقة أفرغت جزءًا كبيرًا منه للحديث عن القائد العام لكتائب عز الدين القسام في غزة "محمد الضيف" بوصفه العقل المدبر والكائن الخفي الذي يدير كافة العمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي، وخلال السرد الوثائقي كان معدو الفيلم يقتبسون أقوالا لجنرالات الحرب الإسرائيلية ومسؤولين في الأجهزة الأمنية للعدو ترسم جميعها صورة خيالية وأشبه بالخرافيّة عن هذا القائد. وهذا ما فعلته قيادة الاحتلال مع قادة آخرين أمثال الشهيد يحيى عياش قبل اغتياله، وغيره الكثير من القادة الذين استشهدوا فيما بعد.
هذه الأمثلة وغيرها تظهر اعتماد تلك الحكومات على هذا النوع من صناعة "الأساطير" بغض النظر عن سياق كل حالة، دون إغفال أن هناك قادة يقدمون أعمالًا مشهودة لأوطانهم، إلا أن استخدام اللعبة المعتادة يأتي في إطار اختزال وتفكيك أكثر منه تمجيدًا للنماذج المذكورة، بهدف الإبقاء على تأكيد وجود الخطر الخارجي من ناحية، والإبقاء على حالة السيطرة والقدرة على بتر أطراف ذلك الخطر وقطع رأسه في الوقت المناسب من ناحية أخرى!