يعتبر مفهوم المجتمع المدني من المفاهيم الحديثة تقريباً، والتي ظهرت بشكل واضح وجلي على الساحة السياسية والاجتماعية، مع بداية عقد الثمانينات من العقد المنصرم، ويوصف بأنه أهم الآليات والوسائل الحديثة التي تنظم العلاقة بين الدولة والمجتمع ضمن الصيغ الديمقراطية التي تقوم على أساس الاحترام، والتسامح، والتعاون، ونبذ العنف، والإقصاء، والتهميش الاجتماعي والسياسي بين الاثنين من أجل الوصول إلى حالة من السلم المجتمعي، وهو ما تسعى إليه الحكومات الديمقراطية المعاصرة، لذا تعتبر منظمات المجتمع المدني أحد أهم الأسس في تحقيق التقدم السياسي، والرفاه الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي للمجتمعات المعاصرة.
ومن المتعارف عليه أن الديمقراطية والمجتمع المدني، يشتركان في علاقة تكاملية، ذلك أن الديمقراطية هي السبيل لإنعاش مؤسسات المجتمع المدني، مثلما المجتمع المدني هو الركيزة الأساسية لترسيخ التجربة الديموقراطية.
إذن هناك علاقة بين المجتمع المدني والتطور الديموقراطي، ولا سيما في مجال تبني مؤسسات المجتمع لعلاقات تقوم على تقديس حق الاختلاف في الآراء والمصالح المادية والمعنوية في داخل مؤسساتها، وفيما يخص علاقاتها مع بعضها البعض ومع الدولة كذلك. ويصح القول أن الديموقراطية هي الوجه السياسي للمجتمع المدني لإدارة الاختلاف والتنافس والصراع، ووفقاً للقواعد المتفق عليها .. وإلى جانب ذلك فإن مؤسسات المجتمع المدني هي مدارس للتنشئة السياسية على الديموقراطية، سواء كانت جمعية خيرية، أو نادي رياضي، أو رابطة ثقافية، أو حزباً سياسياً، أو نقابة عمالية، فإنها تدرب أعضائها على الممارسات الخاصة بالديموقراطية في المجتمع، مثل الالتزام بشرط العضوية وحققوها وواجباتها، والمشاركة في النشاط العام والتعبير عن الرأي، والتصويت على القرارات والمشاركة والاستماع للرأي الأخر، وعضوية اللجان في الانتخابات والقبول بالنتائج.
وبهذا المعنى تغدو جزء لا يتجزأ من البناء الديموقراطي العام إن وجد فعلاً، وجزأً لا يتجزأ من الشروط اللازمة لوجود مثل هذا النظام أو اصلاحه أو التمهيد لنشأته إن لم يكن موجود بالفعل.
أن عملية بناء المؤسسات السياسية ترتبط بطبيعة الهدف المطلوب تحقيقه من وراء بنائها، فالمؤسسات ليست لها قيمة بحد ذاتها، وإنما تأتي قيمتها من الوظيفة الموكل لها إنجازها، فلكل من الأنظمة الديموقراطية وغير الديموقراطية ومؤسساتها قدراتها التي تستخدمها لتحقيق الأهداف التي تضعها النخب الحاكمة، فهناك مؤسسات تعزز التطور الديموقراطي وتسمح بالمشاركة السياسية، وهناك مؤسسات تعزز قدرات الضبط الاجتماعي والتوجيه السياسي، لإقناع وربما الإكراه وحشد المواطنين وتعبئتهم من دون مشاركة حقيقية، فيكون التساؤل هنا عن طبيعة الإيديولوجية التي تعمل بها النخبة الحاكمة، والثقافة السياسية السائدة، مما يؤدي للبحث عن الهدف الذي تبنى من أجله المؤسسات.
الديموقراطية تعني التعددية السياسية، فسيطرة الرأي الواحد باتت تشكل خطراً يفضي إلى التجمد وقتل الإبداع، ولم تعد مقبولة في ظروف الحياة الحديثة التي بلغت حد من التعقيد والتشابك، لذا فان تعدد الآراء والاتجاهات والتصورات وتوفير المناخ الصحي بتفاعلاته هو الضمان الأكبر للتجدد والصواب.
إذن فلا وجود للديموقراطية الحقيقية إلا بوجود مؤسسات المجتمع المدني، فكلما قويت مؤسسات المجتمع المدني وازدادت فاعليتها وتواتر نشاطها، ضعفت قدرة الدولة على التعسف إزاء حقوق المواطنين وحرياته، وكلما ضعفت مؤسسات المجتمع المدني وخفّت فاعليتها وتوقف نشاطها، ازداد تعسف سلطة الدولة إزاء المواطنين وتضخم دور القوة في العلاقة بين المواطنين والدولة على حساب حقوقهم وحرياتهم.
وهكذا تعمل مؤسسات المجتمع المدني؛ كقنوات للمشاركة السياسية في عملية اتخاذ القرارات السياسية، مما يجعل منها ضرورة لا غني عنها بالنسبة للديموقراطية، فإذا كان النظام السلطوي يميل لأن يستولي على دور مؤسسات المجتمع المدني، وإشغال نفسه محلها في عملية صنع واتخاذ القرارات السياسية، كمفتاح للهيمنة على المجتمع من دون قيام مؤسسات المجتمع المدني بدورها الفاعل، لأركان العملية الديموقراطية، بالمقابل لن يكون من الممكن لمؤسسات المجتمع المدني، أن تنمو وتتطور وأن تحصل على دورها الفعلي في ظل نظام ديمقراطي.
وهكذا فإن الدور الهام للمجتمع المدني، يكمن في تعزيز التطور الديمقراطي، وتوفير الشروط الضرورية لتعميق الممارسة الديمقراطية، وتأكيد قيمها الأساسية، ولا يمكن تحقيق الديمقراطية السياسية في أي مجتمع، مالم تصبح منظمات المجتمع المدني ديموقراطية بالفعل، باعتبارها البنية التحتية للديموقراطية في المجتمع بما تتضمنه من نقابات وجمعيات أهلية وروابط ومنظمات نسائية وشبابية .. الخ.