تظهر على المسلمين بين الحين والآخر أنواع زواج جديدة توصف بالشرعية، ويجيزها بعض الفقهاء. هناك الآن زواج المسيار، وزواج المصياف، وزواج على بيتها؛ ويبدو أن حبل الإبداع في هذا المجال طويل. من بين الفقهاء من أجاز هذه الأنواع ومنهم من أجاز جزئيا، ومنهم من حرم، الخ. الذين أجازوا كليا أو جزئيا يستندون إلى استيفاء شروط عقد الزواج كما هي واردة في التعليمات الشرعية: موافقة الطرفين على شروط عقد الزواج وتوفر الشهود والإشهار. وقد دخل فضيلة شيخ الأزهر مؤخرا إلى حلبة الفتاوى الخاصة بهذا الأمر.
الفكر والفقه
قبل أن أدلي برأيي البسيط في هذه المسألة، أرى أهمية توضيح المسألة التالية:
يتكون الإسلام من ثلاث مراتب رئيسية: العقيدة، والحق والباطل، والحلال والحرام. العقيدة التي تشتمل على الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر عبارة عن مادة الإيمان، وهي القاعدة الأساسية الأولى التي ينطلق منها المسلم ويعتمد عليها. العقيدة ليست خاضعة للبحث العلمي ولا للمنطق المادي، لكن من الممكن أن يتوصل الإنسان إلى الإيمان عن طريق استدلالات مادية طبيعية تقرب له صورة الخلق وتدفعه نحو الإيمان بالخالق. العقيدة خاضعة للقناعة الذاتية التي يمكن أن تتبلور لأسباب عدة.
الحق والباطل هما مادة الفكر الإسلامي، وهما مادة التفكير والتعقل والتدبر والنظر والفحص والتجربة والتبصر. للحق مراتب في القرآن الكريم أولها أن الله هو الحق، لكن الحق الذي نحن بصدده هنا هو الذي يشكل قوانين الكون الثابتة التي أوجدها الله سبحانه وتعالى، والتي يسير كل شيء حي وغير حي في الكون وفقها. إنها قوانين موجودة وتعمل باستمرار، وهي القدر الإلهي الدقيق الذي لا يملك أي كائن القدرة على إلغائه. إنه آيات الله التي تتراءى تدريجيا أمام البحاثة والعلماء والمكتشفين، والتي يساعد اكتشافها الإنسان على الإيمان بوجود الله سبحانه. كل شيء في هذا الكون مخلوق بقدر، وما على الإنسان إلا الجد والاجتهاد من أجل اكتشاف القوانين التي تساعد في النهاية على الاختراع وتطوير الوسائل والأساليب التي تساعده على إعمار الأرض واكتشاف الكون من حوله.
أما الباطل فهو الوَهَم. الباطل هو ظن لا يرتقي إلى الحقيقة العلمية، أو هو سوء نية بهدف إخفاء الحقيقة. من يتبع الباطل لن يستطيع التقدم لأنه يستند على معرفة ظنية، أو على تمنيات مزاجية تقوده إلى الضلال والوقوع في الأخطاء والخطايا. قد يوهم صاحب الباطل نفسه ويوهم الآخرين لفترة من الزمن، لكنه لا يستطيع في النهاية الاستمرار بسبب تعثر خطواته المبنية على معرفة خاطئة، وفي النهاية لا مفر أمامه إلا البحث عن الحق.
فكرة الحق والباطل عبارة عن صراع ضدي مستمر في حياة الإنسان، وهي الفكرة التي تدفع الإنسان موضوعيا نحو التقدم. من خلال البحث عن الحق، يتمكن الإنسان من تطوير معارفه العلمية وإقامة العلاقات بين الظواهر الطبيعية والتقدم في تفسير الظواهر الاجتماعية وتفسير السلوك الإنساني. من خلال معرفة الحق، ينطلق الإنسان في مختلف مجالات العلم ويتمكن من وضع تصور متحرك بصورة تصاعدية لما يجب أن تكون عليه الأمور في مختلف مجالات الحياة. يستطيع الإنسان أن يكوّن أفكارا واضحة مترابطة عن الكليات الكونية التي تمس مختلف القضايا الفلكية والجيو-فيزيائية والكيميائية والكهربائية والمغناطيسية والاجتماعية والسلوكية الإنسانية، الخ.
الحلال والحرام هما مادة الفقه الإسلامي الذي يعني بصوابية السلوك الإنساني من الناحية الشرعية وبتسيير الحياة اليومية للإنسان المسلم. إنه يختص بالأحكام الشرعية الخاصة بالسلوك والنواحي الاجتماعية المرتبطة بالحياة اليومية للإنسان. الحلال والحرام ليسا قدرا وإنما تشريع، وهما يمكن أن يطاعا أو لا يطاعا، وتطبيقهما خاضع لاختيار الإنسان. أما القدر فلا مفر منه، ولا يملك أحد اختيارا فيه.
الحق، كما ورد أعلاه، يعني بنواميس الكون الثابتة، والمعرفة به تستند على البحث والتقصي وتطوير العقل العلمي الاستقرائي. إنه مادة الفكر الذي يأخذ من الكون مجالا له، ويقيم كليات علمية تنبثق عنها تفاصيل علمية تفسرها قوانين ومعادلات؛ أما الحلال والحرام، أو الفقه الإسلامي فمجاله السلوك سواء كان اجتماعيا أو إنسانيا، وهو محدود بمحدودية التواجد الإنساني. الحق أكثر اتساعا وأوسع مجالا وأبعد مدى من الفقه، ومن حيث أن الإنسان عبارة عن جزء من مجال ومدى الفكر، فإن الفقه يبقى خاضعا للفكر ويهتدي بهديه.
أضرب مثلا: أمر الله سبحانه الإنسان في البحث عن الحق في آيات كثيرة تعد بالمئات. يظهر علينا فقيه ليقول بأن الاستنساخ حرام. رأي الفقيه هذا لا قيمة له ولا يؤخذ به لأن الله أمر المسلمين في البحث عن الحق، والاستنساخ عبارة عن محاولة لاستكشاف قوانين أودعها الله سبحانه في الخلايا الحية. يمكن أن يكون لرأي الفقيه قيمة إذا تحدث حول استعمالات الاستنساخ.
مثال آخر: استكشاف خواص اليورانيوم جزء من البحث في قوانين الطبيعة، وعلى المسلم أن يعمل بهذا الاتجاه، لكن استعمالات اليورانيوم المخصب ، أي التطبيق الذي يمس حياة الإنسان، تبقى خاضعة للجدل الفقهي.
مثال آخر: قرر عمر بن الخطاب ألا يقطع يد السارق تحت ظروف معينة على الرغم من أن هناك تشريعا قطعيا في القرآن الكريم حول هذه المسألة. وجد ابن الخطاب أن الفكرة، وهي فكرة العدالة الإنسانية، لها أولوية على القضية الفقهية حتى لو ورد فيها نص.
المبدأ سيد التفصيل
المبدأ في القرآن الكريم الذي يحكم علاقة الذكر والأنثى هو مبدأ الزوجية. يقول سبحانه وتعالى: "وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا." (النبأ، 8) الخلق عبارة عن قدر وليس تشريعا، والمعنى أن الذكر يميل نحو الأنثى، والأنثى تميل نحو الذكر بالخلق، ولو لم تكن هناك مؤسسة زواج شرعية أو مدنية أو تعسفية لتزاوج الناس. خلقا، لا يستطيع الإنسان عموما أن يتجاوز القدر، وهو لا مفر سيخضع للقانون الذي أقامه الله سبحانه. والدليل على ذلك بأن الناس يتزاوجون قبل الأديان وقبل التشريع وقبل إقامة الحياة المدنية. تأتي التشريعات بعد ذلك لتنظيم تفاصيل الزواج وتدوينه.
المبدأ الثاني وارد في الآية التالية: " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. (الروم، 21) تقرر هذه الآية مبدأ من شقين: شق يقرر بأن الزوجية الإنسانية بالخلق عبارة عن سكن، أي طمأنينة وإيواء وهدوء وأمن. السكن عبارة عن راحة مادية ومعنوية تقيم بيتا حتى لو لم يتوفر المنزل. الميل الطبيعي بين الذكر والأنثى الذي يمكن أن يكون مرتبطا بالحاجة الطبيعية التي خلقها لله سبحانه لدى الذكر والأنثى على حد سواء مصاحب بالطبيعة، بالخلق، للشعور بالراحة بمختلف أشكالها. الزوجية الإنسانية ليست مرتبطة فقط بالحاجة الجنسية فقط وإنما أيضا بما أودعه الله في الإنسان من حاجة للسكن.
أما الشق الثاني فيتعلق بالمودة والرحمة. المودة والرحمة بين الذكر والأنثى ليستا مكتسبتين وإنما موجودتان بالخلق وذلك بنص الآية. تستعمل الآية كلمة "جعل" وهي تعني الخلق في الخلق الابتدائي. هناك ثلاث مستويات من الخلق في القرآن الكريم لا يتسع المجال لشرحها هنا، لكن بإمكان القارئ أن يتمعن بكلمات الخلق والجعل والإنشاء. الخلق عبارة عن خلق ابتداء، والجعل عبارة عن خلق على خلق، والإنشاء عبارة عن خلق على خلق على خلق. والعبرة هنا أن المودة والرحمة ليستا من إفراز التربية الإنسانية، وإنما عبارة حالتين من حالات الخلق المتأصلة.
ما دام هناك زوجية بالخلق ومدعمة خلقا بالسكن والمودة والرحمة، فإن مسألة العقدية بين الزوج وزوجه تبقى تنظيمية إدارية. الزوجية أسبق على عقد الزواج، والعقد لا يخدم إلا هدف الضبط والتنسيق والتنظيم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون العقد سواء كان كتابة أو شفاهة سببا للزواج أو في الزواج. جاء التشريع الإسلامي مترتبا على خلق الله ومكملا تنظيميا له، وليس مكملا فكريا له. المهور والشهود والعقد والإشهار ليست إلا إجراءات لا ترقى إلى السببية.
الجماع اللازوجي
بناء على ما تقدم، هناك مخالفة كبيرة لخلق الله سبحانه وتعالى إذا حوّل الإنسان الزواج إلى مجرد عقد. لا يستمد الزواج قيمته من العقد لأنه يقوم أساسا على ما هو أقوى من الإجراءات الإنسانية والإدارية وهو الخلق، ومن المفروض أن يخدم العقد فكرة الزوجية لا أن يتعدى عليها. فكرة الزوجية لا تكتمل بالعقد، وإنما بتوفر عناصر الخلق المتمثلة بالسكن والمودة والرحمة. العقد لا قيمة له إن خلت الزوجية من عناصر القوة الإلهية، وهو بذلك يتعامل مع فكرة الزواج على أنها صفقة تجارية. فعندما يعتمد فقيه إسلامي العقد لإقامة زواج كذلك الذي ورد في بداية هذا المقال إنما هو يقفز عن روح الزوجية الربانية ونصها لغاية خدمة هدف دنيوي خارج عن نطاق قيم الزوجية الإلهية. في هذا استخدام لإجراءات إسلامية لخدمة أغراض غير إسلامية، وفيه ما يحول الإجراءات الإسلامية إلى عباءة ظاهرة يختبئ تحتها من يريد القفز عن الزوجية كما وردت في كتاب الله.
لا يحق لمسلم أن يفصل الإجراء الإسلامي عن الجوهر أو عن الهدف الأساسي الذي وضعت الإجراءات لخدمته؛ وليس لمسلم أن يفصل التشريع عن الفكرة، ولا أن يطوع الفكرة لخدمة شهوات أو نزوات طاغية أو ثري أو متنفذ. ولهذا لا أجد في زواج المسيار والمصياف وعلى بيتها إلا تجاوزا يستهتر كثيرا بقيم الزوجية، فضلا عن الأذى الذي يلحقة بالزوجة التي تنتظر عودة زوجها على أحر من الجمر. في هذا أيضا ما يؤذي الفكرة الإسلامية عموما، ويطوع الإسلام بطريقة تنسجم مع أساليب التحايل الغربي على فكرة الزواج والذهاب إلى زنا تحت مظلة تبريرية لا علاقة لفها بالدين.
الفكر أساس الحكم
المشكلة الكبيرة القائمة منذ قرون في الساحة الإسلامية تتمثل في إهمال الفكر لصالح الفقه بحيث تكاد تخلو المكتبة الإسلامية من كتب حول الفكر الإسلامي بينما تعج بكتب الفقه. يهرب المسلمون من القضايا الفكرية، ويحاول بعض فقهائهم تجريم التفكير أو القبول بالتفكير المحدود، وهم في ذات الوقت يقبلون على تقديم الكثير من الفتاوى التي دخلت في تفاصيل التفاصيل إلى درجة تعقيد الدين.
إذا أراد المسلمون قبول التحدي الذي تفرضه الحضارات والفلسفات الأخرى، فلا مجال أمامهم إلا أن يقبلوا على الحلقة الإسلامية الوسيطة التي يتهربون منها ألا وهي حلقة الفكر أو حلقة العلم. لقد كتبوا كثيرا في العقيدة وفي الفقه، لكنهم ما زالوا يهابون البحث في قضايا الحق والباطل، والتي يؤدي البحث فيها إلى نهوض الأمم في مختلف المجالات. وإذا كنا نريد تدبر القرآن الكريم كما أمر الله سبحانه فإن الأوامر الموجهة إلينا والحث والتشجيع للتفكر والتدبر والتعقل والنظر أكثر من الأوامر الخاصة بالتشريع، وإذا كنا نؤمن بالله فإننا بالتأكيد نؤمن بأن تشريع رب العالمين لا يمكن أن يتناقض مع خلقه، ومن حيث أن الخلق كوني والتشريع إنساني، فإن التشريع يخضع للخلق، وأن الخلاف حول أي قضية تشريعية يجب أن يُرد أولا إلى القضية الفكرية. ولهذا من الصعب جدا لشخص غير متعمق بالمسألة الفكرية أن يصبح فقيها إسلاميا، وعليه أن يفكر مرارا وتكرارا وطويلا قبل إصدار فتواه.
ما ملكت أيمانكم
اعتادت الأمم في العهود القديمة سبي الأطفال والنساء، وكانت تجيز لنفسها الاعتداء على النساء جنسيا ورغما عنهن. وكان من المعروف أن الأمم كانت تحرص بقوة على التسلح والتنظيم والتدريب حتى لا تهزم فتع نساؤها بالسبي. وعندما تحدث الإسلام عم ما ملكت الأيمان إنما كان يجاري تقليدا اعتادت عليه الأمم وليس لأن إهانة المرأة أو امتلاكها مقبولة. وفقاهؤنا يقولون إن الإسلام قد كرم المرأة وأعطاها حقوقها، ولا أرى كيف ينسجم هذا القول مع استباحة أعراض الآخرين من المسلمين وغير المسلمين. عادة السبي قد انتهت ولم تعد مقبولة عالميا، وكل من يمارسها يواجه الإدانة من قبل الأمم والنقمة، ويصعب عليه أن يجد لفكره الديني قبولا لدى الآخرين. لم يعد هناك ما يبرر ما ملكت اليمين، وإذا كان من الفقهاء من ما زال يبر فهو يبرر للإسرائيليين سبي نساء الفلسطينيين وللأمريكيين سبي نساء أفغانستان والعراق وانتهاك أعراضهن. من يقبل لنفسه انتهاك أعراض الآخرين عليه أن يتوقع من الآخرين انتهاك أعراضه. نحن لا يمكننا التلاعب بالنصوص، لكن محتوى ومضمون النصوص يتغير وفق تغير المفاهيم الإنسانية. المعنى أنهم فهموا النص وفق ظروف زمانهم ومكانهم، ونحن من المفروصض أن نفهمه من خلال ظروف زماننا ومكاننا. ومن أؤاد أن يقيم الدعوة إلى الإسلام فإن عليه أن يقدم المثل الأعلى للأمم لمي يكون مقنعا، أما من أراد الحط من القيم الإسلامية فهو ليس داعية وإنما مهرج يصد الناس عن دين الله.
الحور العين
تأخذ مسألة الخور العين مساحة واسعة من الحديث حول الجنة والنار، وشاع في العالم أن المسلمين يحاربون من أجل الظفر بالنساء يوم القيامة وليس من أجل قيم إنسانية وأخلاقيى عليا.ما هو معروف أن المسلم يحارب من أجل أن يسشهد فيدخل الجنة التي تكون الحوريات قد احتشدن فيها لاستقباله. ليس معروفا على الساحة الدولة جيدا بأن المسلمين يحاربون من أجل التحرير، أو من أجل نيل حرياتهم، أو من أجل إقامة العدل والمساواة، أو من أجل القضاء على الطغاة الظالمين الذين يسومونهم سوء العذاب.
لقد صنعت تنظيمات إسلامية لنفسها سلوكيات أساءت للإسلام والمسلمين، وجعلت الأمم تقرف من الإسلام وتهاجم المسلمين. هذه التنظيمات ومن ينضوي تحتها حولت الإسلام إلى دين دعارة، وأعطت الانطباع بأن المسلم عبد للفرج، وأنه لا يجاهد لوج الله وإنما لوجوه الحور، ومن السهل السيطرة عليه وقيادته فيما إذا سلمته امرأة. هذا اعوجاج خطير يقوم به المسلمون، ويجب أن يقوموه إن أرادوا لأنفسهم الخير ومرضاة الله.