كتبت: تسنيم ياسين
تقترب مركبة خلط الإسمنت ذات النمرة الصفراء من الحاجز، يصر الجندي على تشغيل الخلاط فيرفض السائق، لتنكشف الخطة ويخرج عشرة عمال كل منهم يحمل خيبته وحده إلى مركز الشرطة الإسرائيلية ينتظرون مصيرهم.
في المركز يلتقطون صوراً للعامل من كل الجهات وبحركات مختلفة، يأخذون بصمات الأصابع ثم الكفين، وبعدها يتقرر مصيره حسب الاعتقالات السابقة، وقد يصل الأمر إلى عقوبة السجن عشر سنوات وغرامات مالية عالية، أما إن حاول الهرب فيتعرض للضرب المبرح ثم يلقون به على الحدود، وقد يصل الأمر إلى إطلاق النار.
أكثر من 42 ألف عامل فلسطيني يبتدعون كل يوم خطة جديدة للتسلل إلى أراضي الداخل، وفي كل سياج يفصل بين أراضي الـ67 والـ48 لا بد من ثغرة يتدفقون منها بالعشرات يومياً، في رحلة يعنونها أصحابها بالرعب الذي لا ينتهي.
تبدأ الرحلة بالتنسيق بين العمال وأحد مهربي الضفة الذي سينقلهم إلى نقطة ينتظرهم فيها مهرب آخر من سكان الداخل ينطلق بكل واحد منهم نحو نقطة آمنة لا تتسلل إليهم فيها أنظار الشرطة الإسرائيلية. وكل رحلة تكلف مبلغاً يحدده المهربون دون قانون يحدد المبالغ أو أي حماية للعمال.
ماهر بيراوي من عصيرة الشمالية، اضطرته الظروف الاقتصادية المتردية وغياب مصدر الرزق إلى خوض مغامرة التسلل، كان يخرج في وضح النهار مع عشرة عمال، ينقلهم مهرب مقابل 300-400 شيكل إلى حوارة ثم إلى عزون عتمة، ومنها ينطلقون مشياً لمسافة تصل ما بين 5-7 كيلومترات حتى كفر قاسم في الداخل.
وأما الشاب حسين أحمد (اسم مستعار فإلى الآن يعمل متسللاً) فيضطر مع العمال إلى التسلل عبر طريق التفافي حول القدس، في أحد محطاته سياج موصول بالكهرباء، يوقفون عليه سلمين من الخشب، يصعدون الواحد تلو الآخر وسط مشهد الحيوانات الميتة التي التقطتها الكهرباء التي تصل إلى 3 فاز، وخوف من إمساك الشرطة بهم.
الطريقة الأخرى التي يتبعها تقوم على تسلل العمال عبر الحاجز في حافلة معتمة، وهنا تكون الأخطر والأقرب على الانكشاف، وبالتالي يتضاعف السعر للمهرب ليصل 500 شيكل.
المهربون هم أول محطات الخوف لدى العمال، فلا يقتصر الأمر على الابتزاز المالي، بحيث يرى أحمد أن المهربين يأخذون منهم ما "لا يستحقونه في طريق لا تكلف 50 شيكلاً"، بل قد يصل الأمر إلى التعاون مع الشرطة.
يشهد على ذلك ماهر قائلاً: "ركبنا يوماً مع أحد المهربين، فسمعناه يتحدث مع أحدهم ويقول أنه يحمل معه عمالاً وعددهم كذا وكذا، لنفاجأ بعد ذلك بالشرطة الإسرائيلية تنصب حاجزاً وبالتالي اعتقلنا، أما هو فذهب في حال سبيله".
جمال حسن (اسم مستعار) استبعد التعاون مع الاحتلال على اعتبار أن المهرب رقبته مع رقاب العمال.
وبرر المبالغ التي يأخذها مقابل تهريب العمال بأن المخاطرة التي يتحملها لا تقل عن مخاطرة العمال، فـ"أنا أنقل الشباب وأي خطأ منهم سأتحمل عقوبته بالسجن، وهناك حالات تكررت بقيام عمال متسللين بعمليات ضد الاحتلال، كادت تودي بحياة المهرب، الذي كان سيدفع الثمن".
وبحسب اللجنة البرلمانية الإسرائيلية، فإنه من أصل 73 هجمة، نفذها فلسطينيون في أراضي الداخل، منذ شهر أيلول عام 2015 فإن 27 منها نفذها عمال دخلوا عن طريق التهريب، وهنا كان لا بد من تحمل المهرب النتائج.
ويفرض القانون الإسرائيلي على كل من ينقل عاملاً فلسطينياً أو يقدم له أي خدمة، عقوبة السجن الفعلي التي تترواح ما بين 3-5 سنوات إضافة إلى غرامة مالية عالية جداً، ويصل الأمر إلى سحب رخصة من ينقل العمال.
مبيت مع الجرذان
يبيت العمال في ظروف تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، حتى يجدوا مكاناً يؤويهم.
في البداية اضطر بيراوي للمبيت في العراء، ولكن بعد فترة وجد غرفة يملكها يهود يسكنون الفلسطينيين المهربين مقابل 5 آلاف شيكل شهرياً، يصف الغرفة قائلاً: "هي غرفة صغيرة مع حمام، الأسرة فوق بعضها، مجهزة لعشرة أشخاص لكننا كنا 20 ينام نصفنا على الأرض ونصف آخر على السرير بالتناوب".
"في أحد الأيام استيقظت على شيء يمشي على قدمي، اعتقدت أنها قطة ولكن المفاجأة أنه كان جرذاً كبيراً، الوضع في الغرفة أكثر من مزرٍ والفئران تروج وتجيء على راحتها، أما نحن فكنا نخاف من إضاءة الشمعة كي لا نلفت انتباه الشرطة علينا" يضيف.
أما حسين فكان حظه أوفر حيث وفر له صاحب العمل مكاناً ينام فيه، وهو ما لا يتحقق لكثيرين كان صاحب العمل نقمة أخرى عليهم.
أصحاب العمل
إن كان العامل بلا تصريح فلا شيء يضمن حقوقه لدى صاحب العمل، زوج ابنة بيراوي كان أحد ضحايا احتيال صاحب العمل، حيث أعطاه نصف المبلغ ووعده بالنصف الآخر بعد أن ينهي عمله، ولكنه لم يعطه، وضاع المال عليه.
وكانت لجنة برلمانية إسرائيلية صادقت عام 2016 على مشروع قانون يحدد عقوبة السجن حتى عامين، على من يشغل عاملاً واحداً بدون تصريح، وعقوبة السجن حتى 4 سنوات على من يشغل مجموعة من العمال.
وذكرت أن مشروع القانون يفرض غرامة ما بين 2500 -58 ألف دولار أمريكي لمن يشغل عاملاً واحداً، بدون تصريح عمل، وغرامة 5-77 ألف دولار على من يشغل أكثر من عامل بدون تصاريح، وبالتالي فإن صاحب العمل مهدد أيضاً.
أما في حال إصابة العامل المتسلل فإن التعامل معه يكون بأخذه إلى حدود الـ67 دون أي رعاية على اعتبار أنه غير قانوني، أما إن كانت الإصابة ترتب عليها عجز، فإن صاحب العمل سيتحمل كافة التكاليف، التي قد تصل لتعويضات بالآلاف.
محمد يوسف، أحد العمال الذين تعرضوا لإصابة أدت إلى عجز شديد لديه بعد غيبوبة لأكثر من شهر، تم تعويضه وإلى الآن جلسات علاجه في الداخل على نفقة صاحب العمل بعد حكم المحكمة بتعويضه بمبالغ تصل أكثر من مليون شيكل.
قانونياً، عمال التهريب هم خارج نطاق القانون الإسرائيلي ولا حقوق لهم، لكن العامل إن تعرض للإصابة فسيمنح تعويضاً على قدر العجز الذي يصيبه، وأثبتت أغلب الحالات أن المحاكم كانت منصفة بحق العمال بغض النظر عن قانونية وجوده.
من الرمضاء إلى النار
لا يلجأ الفلسطينيون إلى تحمل المخاطرة ترفاً ولا زيادة خيارات، في ظل واقع تزيد فيه نسبة البطالة على الـ27% معظمهم من الشباب 15-24 سنة.
يقول حسين: "على الأقل هناك تحصل على المبلغ الذي تريد، بساعات عمل محددة، أما هنا فلا عمل، وإن وجدت فاليومية لا تتجاوز الـ100 شيكل وهي لا تغطي ثمن دخان الشاب".
أما المهرب جمال فأيد كلام قريبه بقوله: "المهربون يبنون فيلات من التهريب بينما نحن إن أردنا العمل هنا، ذل وإهانة وساعات عمل طويلة، وفوق ذلك بلا أجور مرضية، هناك على الأقل أجمع 15 ألف شيكل بالتهريب".
وفي مقابلة مع شبكة أصداء أشار شاهر سعد الأمين العام لاتحاد نقابات عمال فلسطين، إلى أن العامل يخرج من القانون الفلسطيني إلى القانون الإسرائيلي، ولا شأن بالقانون الفلسطيني به، وما دفع الشباب إلى ذلك هو البطالة وانخفاض الأجور مقابل الأجور في الداخل.
وكان وكيل وزارة العمل الفلسطينية، ناصر القطامي أكد في مقابلة سابقة مع صحيفة الحدث أن وزارة العمل لطالما سعت للتنسيق مع السلطات الإسرائيلية من أجل تنظيم دخول العمال الفلسطينيين، وحماية حقوقهم، وأن الوزارة تسعى إلى إيجاد فرص عمل بديلة للعمال.
ويبلغ الحد الأدنى للأجور في أراضي السلطة الفلسطينية لعمال المياومة، 65 شيكلاً بينما في أراضي "إسرائيل" فإن الحد الأدنى للفئة نفسها يصل إلى 245 شيكلاً، ويختتم بيراوي كلامه: "لست مضطراً للعمل لدى من يذلني ويفرض عليّ ما لا يحميني القانون منه، في النهاية الراحة التي أجدها لدى مشغلي في الداخل تغنيني عن العمل هنا خاصة بعد حصولي على تصريح".
إن كان التهريب عذاباً، فالتصاريح في كثير من الأحيان كانت أداة ابتزاز من قبل المخابرات الإسرائيلية للعمال الفلسطينيين، كما أنه لا يعطى إلا بشرط الزواج ووجود حساب بنكي خاص، وهو ما يكون لدى غالبية الشباب مفقوداً.