قدم مواطن سوري متقاعد، يدعى عادل السعيدي، بلاغا إلى ضابط في مقر المخابرات في وسط دمشق، في تشرين الأول/أكتوبر العام 1964، وتحدث فيه عن شكوكه تجاه أحد معارفه، قال إنه يدعى كامل أمين ثابت، وهو الاسم الذي أطلقه على نفسه الجاسوس الإسرائيلي، إيلي كوهين، طوال تواجده في سورية.
ورأى مؤلف كتاب "إيلي كوهين – ملف مفتوح"، نوعام نحمان طيفر، في مقال نشره في صحيفة "معاريف" اليوم، الجمعة، أنه "من الجائز أنه لو لم يظهر السعيدي يقظة بالغة كهذه، لكانت القضية كلها ستتجه في اتجاه آخر. وقد عرف السعيدي لمن يتوجه. فقبل ذلك بسنوات تسرح من خدمة طويلة في منصب رفيع في المخابرات السورية، برتبة مقدم".
وأضاف طيفر أنه قبل عدة أيام من تقديم السعيدي البلاغ، غادر كوهين دمشق إلى أوروبا ومن هناك إلى إسرائيل، للاحتفال بولادة نجله، وعاد إلى دمشق في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر. "ورغم علمه بأن أصدقاءه يشتبهون به، لكنه لم يقدّر أن محققي الوحدة 134 في المخابرات السورية كانوا بانتظاره، وبحوزتهم معلومات وملف شبهات مثيرا للقلق. وقد تعقبّه المحققون لشهر ونصف الشهر، وقرروا اعتقاله في 18 كانون الثاني/يناير 1965".
وتابع أن "قوة من أفراد الأمن، بقيادة سعيد جاويش، اقتحمت شقة كوهين، الذي فوجئ وسألهم ماذا يريدون، وأجابوا أن بحوزتهم أمر تفتيش عن مخدرات في شقته. وخلال التفتيش عثروا على جهازي مورس (لإرسال رسائل مشفرة إلى الموساد)، وهوائي وضعه كوهين على سطح البناية، وكتاب الشيفرات. وبعد أربعة أشهر بالضبط، تم إعدام كوهين".
وأشار طيفر إلى رسالة، من سبع صفحات، وصلت من شخص اسمه فريد إلى شقيق كوهين، أبراهام، قبل سبع سنوات. وكتب فريد في الرسالة إنه كان يعرف "كامل"، أي كوهين، وتحدث عنه بالتفصيل. وأضاف أن "كامل كان بمثابة أحد افراد الأسرة، وبعد اعتقاله امتنع عن تجريم الأسرة، وإلا لكنا قريبين من نهاية حياتنا".
وكشف فريد في رسالته أن المحيطين بكوهين في دمشق بدأوا بالاشتباه به، بسبب عدة أمور لم تتلاءم مع قصة تغطيته: "كيف يكون (كوهين) رجل أعمال بينما أثاث بيته متواضع". وفي إحدى المرات ضبطه أفراد أسرة فريد يكذب، "وبدأوا يتهامسون بأنه جاسوس مصري أو عراقي. واقترب أحد أصدقائه منه وقال له إن الجميع يشتبه بأنك ضالع في عمل خطير جدا. ولا أحد يصدق أنك رجل أعمال".
وتابع طيفر أنه بعد قراءته للرسالة توصل إلى استنتاج بأن مرسلها هو نجل وحيد قطب، الذي استأجر كوهين شقته من شقيقه هيثم. وتقع شقة كوهين فوق شقة وحيد قطب بطابقين. وتبين لطيفر لاحقا أن مرسلها نجل وحيد قطب، وأن اسمه فريد.
وكتب فريد لشقيق كوهين أن عادل السعيدي اشتبه بأن كامل أمين ثابت هو جاسوس، وأبلغ وحيد قطب بذلك. وخلال رحلتهما إلى أوروبا قال السعيدي لصديقه وحيد إنه يعتزم إبلاغ السلطات السورية حول شكوكه. وازدادت شكوك السعيدي بعدما سأل الشقيقان وحيد وهيثم قطب عن طبيعة أعمال كوهين، ولم يتمكنا من تقديم إجابة واضحة.
وأضاف فريد أن كوهين دأب على الاهتمام بالسياسة وإظهار تأييد مبالغ فيه لحزب البعث، وأن هذا السلوك كان مناقضا لطبيعته، وأن وحيد أبلغ السعيدي بأن كوهين كان يستضيف في شقته قياديين في حزب البعث وضباطا في الجيش السوري.
ووفقا لبروتوكول المحاكمة، فإن كوهين سافر في رحلة مع أصدقائه إلى هضبة الجولان. ووفقا للرسالة، فإن كوهين ارتكب خطأ أمنيا، عندما بدأ يلتقط صورا للمنطقة بشكل واضح وأمام أصدقائه، وبينهم السعيدي، ولم ينصع لطلباتهم بالتوقف عن التصوير. وحسب الرسالة فإن كوهين افتعل إغماءه، كي يصل إلى عيادة، لكن حيلته كانت مكشوفة.
وبعد نصف سنة من الرحلة إلى الجولان، وفقا لطيفر، قدم السعيدي بلاغه ضد كوهين إلى المخابرات السورية، بينما تواجد كوهين في إجازة قضاها في إسرائيل، واستمرت 59 يوما. "ومنح غيابه ضباط المخابرات السورية، بقيادة أحمد سويداني، مهلة طويلة من أجل اقتحام شقة كوهين بهدوء، والبحث عن قرائن، والتحقيق مع معارفه، وإعداد مراقبة متواصلة للرجل الذي اشتبهوا بأنه يدير شبكة تجسس طوال ثلاث سنوات".
وغادر كوهين إسرائيل، في 17 تشرين الثاني/نوفمبر، إلى دولة أوروبية، قضى فيها تسعة أيام، وتوجه منها إلى دمشق، وكان يخفي بين أغراضه جهاز مورس. ونفذت المخابرات السورية، برئاسة سويداني، الذي أصبح رئيسا لأركان الجيش، خلال حرب حزيران/يونيو 1967، موجتي اعتقالات لكل من التقى كوهين منذ أن عاد إلى دمشق وحتى اعتقاله في كانون الثاني/يناير 1965.
ولفت طيفر إلى أن المخابرات السورية كانت تعتقد أنها اعتقلت جاسوسا عربيا، لكن بعد أربعة أيام من التحقيق، حاول كوهين خلالها خداع المحققين، نجحوا باكتشاف هويته وأنه "جاسوس صهيوني". وعندها قامت المخابرات بحملة اعتقالات أخرى شملت 540 شخصا.
وخلال محاكمته، كشف كوهين عن أسماء 35 من معارفه، ووصف أحدهم بأنه "متقاعد في الشرطة"، في إشارة إلى السعيدي. ووفقا لطيفر، فإن جميع الأشخاص الذين ذكر كوهين أسماءهم اعتقلوا وحوكموا، باستثناء السعيدي "المواطن الذي جرّم رجلنا في دمشق".
غرب 48